رقصة “العبدي” تقدم محاكاة لقصة شهيرة شهدتها منطقة القطيع في محافظة الحديدة، أواخر القرن الثاني عشر للهجرة.
خصوصية قلعة القارة في مديرية رصد بمحافظة أبين، جعلتها متحفًا متكاملاً لإبراز الموروث الثقافي اليافعي.
أستاذ التاريخ في جامعة لحج، علي صالح الخلاقي: “مهرجانات يافع كان لها ارتباط ديني قديمًا واحتفظت بعد الاستقلال بطابعها الاجتماعي الثقافي”.
مهرجان “عيدنا فرح وسلام” في منطقة الجبزية بريف تعز الجنوبي شاهد على قدرة المجتمع اليمني على التعافي والانتصار على الحرب.
الباحث رفيق العكوري: في حالة الحروب والصراعات المسلحة، تتجه المجتمعات دومًا للتمسك بهويتها الثقافية لمعالجة آثار الحرب.
صنعاء- “اليمني الأميركي” – أحمد الكمالي:
أضفت المهرجانات التراثية الشعبية، التي شهدها عدد من مناطق اليمن خلال إجازة عيد الأضحى لهذا العام 2024، كالتي أقيمت في تهامة ويافع وتعز وغيرها، طابعًا فرائحيًا مبهجًا على عيد اليمنيين الذين تجلوا حريصين على انتزاع بهجتهم والاحتفاء بتراثهم على الرغم من جو الحرب القاتم الذي ما يزال يخيم على البلد منذ عشرة أعوام.
لقد مثلت هذه المهرجانات بما قُدم فيها من ألعاب شعبية وعروض فنية مختلفة شاهدًا حيًا على الثراء الذي يمتاز به الموروث الثقافي اليمني، المتنوع بتنوع تضاريس البلد، والذي يظل على الدوام مصدرًا مهمًا للإلهام والاعتزاز.
في منطقة تهامة، غربي اليمن، أقيم كلٌّ من مهرجاني القطيع وزبيد، فيما شهدت مناطق يافع، جنوب اليمن، تنظيم أربعة مهرجانات عيدية مشابهة، كما أقيم مهرجان “عيدنا فرح” في منطقة الجبزية بمديرية المعافر في محافظة تعز.
ركزت هذه المهرجانات، التي نُظِّمت بمبادرات ذاتية من قِبل مهتمين وناشطين ثقافيين من أهالي تلك المناطق الريفية البعيدة عن المدن الرئيسية، على إحياء الموروث الثقافي التي تتميز به تلك المناطق اليمنية.
إقامة مثل هذه المهرجانات يُعد تقليدًا قديمًا يتم توارثه جيلاً بعد جيل كمهرجان “القطيع للتراث والموروث الشعبي التهامي”، “الذي ينظم سنويًا منذ القرن العاشر الهجري في منطقة القطيع بمديرية المراوعة (حوالي 30 كيلو متر شمالي مدينة الحديدة)، ويُعد أشهر المهرجانات الثقافية والتراثية التي تعرفها المحافظة وكافة منطقة تهامة اليمن، بحسب الباحث المهتم في التراث التهامي والمسؤول الإعلامي للمهرجان، أيوب هادي، في حديث لـ”اليمني الأميركي”.
رقصة “العبدي”
مهرجان القطيع الذي انطلق في ثاني أيام عيد الأضحى، واستمر لثلاثة أيام، احتوت فعاليته لهذا الموسم أمسيات إنشادية وشعرية، وتنظيم سباقات فروسية، وقفز فوق الجمال، والأخيرة رياضة شهيرة في تهامة، فيما تُعد الرقصات التقليدية التي يتم أداؤها بشكل جماعي وتختزل في طياتها مزيجًا من فنون الفلكلور الشعبي كرقصة “العبدي”، أكثر الأحداث المدهشة التي يمكن أن تعلق في ذاكرة الزائر عن مهرجان القطيع وما يميزه عن غيره من المهرجانات التي تقام في مناطق وأوقات مختلفة في تهامة كزبيد والحسينية والقناوص وغيرها.
ورقصة العبدي هي رقصة جماعية يؤديها مجموعة من الرجال يقفون بشكل متجاور حاملين عصيًا في أيديهم على وقع ضربات الطبول، ويصاحب أداءها ترديد مقاطع شعرية مع ضرب الطبول وتشجيع من قِبل الحاضرين.
وبعد الرقص أمام الطبول لبرهة من الزمن، يستقبل المشاركون إشارة من شخص يلعب دور الأمير، للانتقال إلى ساحة واسعة يوجد فيها حوض من الوحل كرمزية لساحة المعركة، وفيها يتبارز اللاعبون بالعصي، ومن يستسلم يتم تخضيبه بالوحل، وهكذا قبل أن يعودوا مجددًا إلى أمام الطبول لإنهاء الرقصة، من حيث ابتدأت.
وحول خصوصية وتاريخ رقصة العبدي، يوضح هادي لـ”اليمني الأميركي”: أن “رقصة العبدي تقدّم محاكاة لقصة شهيرة شهدتها منطقة “القطيع” أواخر القرن الثاني عشر للهجرة، حيث يقال إن سيدًا قام بإعتاق بعض مواليه وتحريرهم، فخرجوا بالمهرجان تعبيرًا عن فرحهم بالحرية، قبل أن تتحول إلى رقصة متوارثة تحمل مدلولاً عسكريًا وتاريخيًا”.
قلعة القارة
احتلال الرقصات الشعبية صدارة فعاليات المهرجانات التراثية لا تقتصر على مهرجان القطيع في تهامة فقط، إذ يمكن ملاحظة ذلك جليًا في مهرجانات يافع، وفي مقدمتها مهرجان القارة التراثي، الذي تميز من حيث التنظيم واختيار المكان المعبر عن هوية الحدث، إذ تكفي إطلالة قلعة القارة التاريخية التي يحمل المهرجان اسمها، وتقع على سفح جبل شاهق في مديرية رصد بمحافظة أبين، ليخبرك طرازها المعماري الفريد أن هذا الجمال العبقري في البناء لن تراه عيونك إلا في مناطق يافع.
ويؤكد رئيس تحرير منصة “حمير”، وأحد الشباب المنظمين للمهرجان، صالح شنظور، في حديث لـ”اليمني الأميركي”: أن “قلعة القارة بما تمثله من خصوصية تاريخية كونها كانت عاصمة السلطنة العفيفية (سلطنة يافع السفلى) فيما مضى من الزمن، وبما تحتوي من قصور وأبنية عتيقة تحولت خلال أيام المهرجان إلى متحف متكامل لإبراز الموروث اليافعي، تسمح بتخصيص أركان للزي التقليدي والأكلات الشعبية والصيدلية اليافعية، بالإضافة إلى أركان للكتب والتصوير”.
مهرجان القارة في نسخته الخامسة، ليس المهرجان الوحيد الذي شهدته مناطق يافع الممتدة في 8 مديريات بين محافظتي أبين ولحج، إذ أقيم أيضًا ثلاثة مهرجانات أخرى هي كلٌّ من: الهجر والموسطة والمفلحي في محافظة لحج، وجميعها تقدم وتحتفي بالتراث اليافعي، وتشكل محطة لتكوين وتجسير العلاقات الاجتماعية بين أبناء المنطقة والزوار الذين يحضرون تلك المهرجانات من مختلف مناطق اليمن، وتتميز تلك المهرجانات الثلاثة عن القارة في كونها تقليدًا سنويًا قديمًا، بحسب أستاذ التاريخ في جامعة لحج والباحث في التاريخ والتراث، علي صالح الخلاقي، في حديث لـ”اليمني الأميركي”.
ويوضح الأكاديمي الخلاقي: “مهرجانات يافع كان لها ارتباط بزيارة الأولياء على مدى قرون، وبعد الاستقلال تحولت إلى مهرجانات عامة، فقدت طابعها الديني واستمرت بطابعها الاجتماعي الثقافي، وقبل أن تدخل وسائل السينما والتلفزيون كانت تلك المهرجانات عبارة عن مسارح مفتوحة يشارك فيها الرجال والنساء، واستمر الحال كما هو عليه إلى ما بعد حرب عام 94، خفتت هذه العادة، وحتى حينما عادت، لم تعد كما كانت من جوانب كثيرة إحداها أنها أصبحت محصورة على الذكور فقط”.
“عيدنا فرح وسلام”
مما لاشك فيه أن الصراعات والحروب تلقي بظلالها على المشهد الثقافي لأي بلد، كما هو اليمن الذي يشهد حربًا مستمرة منذ عشرة أعوام، إلا أن هنالك من ينظر إلى أن توجه المجتمع بمبادرات ذاتية إلى إقامة مثل هذه المهرجانات التراثية يعد شهادة حية على قدرة المجتمع اليمني على التعافي والانتصار على الحرب وما تخلفه من مآسٍ وأحقاد، ودليلًا على توقه إلى تحقيق السلام وإيمانه بالتعايش والحوار، والشاهد الأكثر وضوحًا على ذلك يتجسد في مهرجان “عيدنا فرح وسلام” الذي أقامه أبناء منطقة الجبزية في مديرية المعافر بريف تعز الجنوبي، بحسب أحد أهالي المنطقة، الصحفي رشيد سيف، في حديث لـ”اليمني الأميركي”.
تمسك بالهوية
من جهته، يؤكد الباحث المهتم بالتراث اليمني، رفيق العكوري، في حديث لـ”اليمني الأميركي”، أن “مبادرة المجتمع اليمني إلى إقامة المهرجانات التراثية وتبني الأعياد والمناسبات ذات العلاقة بالموروث الثقافي والحضاري للبلد، له ما يفسره، إذ إنه في حالة الحروب والصراعات المسلحة تتجه المجتمعات دومًا للتمسك بهويتها الثقافية وتكريسها في أنماط حياتها المختلفة لمعالجة الآثار النفسية والاجتماعية للحروب”.
ويستدرك الباحث رفيق: “لكن حتى قبل اندلاع الحرب، كانت علاقة المجتمع اليمني مع موروثه الشعبي قوية ومستمرة بالرغم من كل التغيرات السياسية والديموغرافية وإهمال الجانب الرسمي، بل يكاد يكون المجتمع اليمني من أكثر المجتمعات في العالم حفاظًا على تراثه الشعبي، وما يحدث من مهرجانات موسمية ليست إحياءً للتراث بقدر ما تندرج تحت صونه والتعريف به، لأن التراث اليمني يحيا مع الإنسان اليمني، ويبرز في جميع تفاصيل حياته”.
الدور المأمول
وحول الدور الذي ينبغي أن تلعبه الجهات المعنية في وزارات الثقافة والسياحة وغيرها، يشدد رفيق: أن “واجب الجهات الحكومية هو دعم مبادرات إقامة مثل هذه المهرجانات والكرنفالات التي تعكس الهوية الثقافية للبلد، دون أي تدخل مباشر في إعدادها وتنفيذها، إذ إن ما عليها هو الاكتفاء بالدعم المادي واللوجستي وترك المجتمعات تعبِّر عن ثقافتها في ما تراه مناسبًا لها”.
يتفق القائمون على المهرجانات التراثية العيدية وجميع الباحثين والمهتمين بالتراث اللا مادي الذين قابلتهم “اليمني الأميركي” أثناء إعداد هذا التقرير، على كون إقامة مثل هذه المهرجانات الشعبية التراثية يمثّل فرصة حقيقية يمكن استثمارها إيجابًا في تعريف العالم بالثراء الثقافي الذي يمتاز به اليمن، إذا ما تم تبنيها ورعايتها من قِبل مؤسسات رسمية، على غرار ما يحدث في دول عربية، في حين يعد مجرد إقامتها بهذا الشكل الباذخ بالجمال والأصالة، انتصارًا حقيقيًا يسجله اليمنيون على حساب الحرب.
تعليقات