جيمس زغبي*
تشترك جهود «الجمهوريين» في الكونجرس، والمجموعات الموالية لإسرائيل، مثل «رابطة مكافحة التشهير»، في شن حرب على المبادئ الليبرالية لحرية التعبير والتجمع، وعلى مفهوم الجامعة ذاته.
يطالب «الجمهوريون» وحلفاؤهم الجامعات بإزالة أيّ ذِكْر للتنوع والإنصاف والإدماج في سياسات القبول، أو البرامج الأكاديمية، كما فرضوا تعريفًا مشوهًا وموسعًا بشكل مفرط لمعاداة السامية.
في كلتا الحالتين، أبلغوا المؤسسات التعليمية أن عدم الامتثال لهذه الإملاءات سيؤدي إلى خفض تمويلها الفيدرالي. في حين أن المنظمات التي تُمثِّل أعضاء هيئة التدريس والإدارات حذّرت من الامتثال لمطلب القضاء على سياسات التنوع والإنصاف والإدماج، إلا أن بعض الجامعات قد استجابت بالفعل. فقد قامت عشرات المؤسسات بحذف هذه المصطلحات والبرامج من مواقعها الإلكترونية، وأغلقت مكاتب لتعزيز التنوع، وتم إلغاء بعض المقررات الدراسية.
والأخطر من ذلك هو الضرر الذي لحق بحرية التعبير والحرية الأكاديمية بسبب تهديدات الإدارة والكونجرس بمعاقبة الجامعات التي لا تتخذ إجراءات لكبح ما يسمونه «معاداة السامية». المشكلة الرئيسة في هذا المطلب تكمن في أنه يستند إلى تعريف زائف لمعاداة السامية، طالما روّجت له رابطة مكافحة التشهير الموالية لإسرائيل، وهو تعريف يساوي بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية. ويستند هذا المنطق إلى أن انتقاد إسرائيل يعد معاداة للسامية، لأنها الدولة اليهودية الوحيدة، وبالتالي فإن انتقادها يشكل تهديدًا لليهود الذين يتعاطفون معها.
في أفضل الأحوال، هذا «المنطق» بعيد الاحتمال، وفي أسوأ الأحوال، هو محاولة فظة لإسكات ومعاقبة المنتقدين. وفي سعيها لفرض هذا التعريف، وجدت «رابطة مكافحة التشهير» شركاء متحمسين بين المسيحيين الأصوليين اليمينيين و«الجمهوريين» في الكونجرس ودونالد ترامب، على الرغم من أن أسبابهم قد تكون مختلفة، ولكن سواء كان هذا التعاون زواج مصلحة أو توافقًا أيديولوجيًا، فإن النتيجة كانت إلحاق ضرر جسيم بالتعليم العالي.
تسعى رابطة مكافحة التشهير إلى إسكات الأصوات المتزايدة المنتقدة لسياسات إسرائيل. أما المسيحيون اليمينيون، بدافع من رؤية لاهوتية متشددة، فيرون في دعم إسرائيل ضرورة لتحقيق نبوءاتهم حول نهاية الزمان. وبما أن هؤلاء يشكلون نحو 40% من قاعدة الناخبين «الجمهوريين»، فإن «الجمهوريين» وترامب يسعون للحفاظ على رضاهم، كما أن «الجمهوريين» يرون في هذه الجهود فرصة لتعزيز استهدافهم النخب و«الليبراليين»، خاصة أن أولى التظاهرات المؤيدة لفلسطين تم تنظيمها في عدد من الجامعات المرموقة.
وبما أن منتقدي سياسات إسرائيل هم في الغالب «ديمقراطيون»، فإن «الجمهوريين» يرون في الدفاع عن إسرائيل وسيلة لتقوية قاعدتهم، وإحراج خصومهم.. لقد تضافرت هذه المصالح المتنوعة في هجوم منسق على الحرية الأكاديمية وحرية التعبير ومنتقدي إسرائيل، وقد برزت بوادر هذا الهجوم، خلال جلسات الاستماع التي عقدها الكونجرس العام الماضي، حيث تم استدعاء عدد من رؤساء الجامعات المرموقة لمساءلتهم من قِبَل أعضاء الكونجرس «الجمهوريين».
وكان أبرز مشهد في هذه الجلسات عندما زعمت نائبة «جمهورية» بشكل خاطئ أن الشعار الذي تردده بعض التظاهرات: «من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة»، هو دعوة معادية للسامية تعني الإبادة الجماعية ضد الشعب اليهودي، ثم انتقلت بسرعة للسؤال عمّا إذا كانت هناك عقوبات على الدعوة لإبادة اليهود. أُصيب الرؤساء بالحيرة من هذه القفزة غير المنطقية، وأعطوا ردودًا مرتبكة. ثم، خلال الاحتجاجات في جامعة كولومبيا، قام رئيس مجلس النواب «الجمهوري» بزيارة الجامعة مطالبًا بقمع الاحتجاجات. وانضم إليه «جمهوريون» آخرون، مشيرين إلى أن الجامعات أصبحت معاقل للنخبة الليبرالية غير الأميركية ويجب تلقينها درسًا.
كما هددت لجنة بالكونجرس بقطع التمويل الفيدرالي عن الجامعات التي لا توقف الاحتجاجات، ولا تعاقب المحتجين، ولا تقضي على الأنشطة والمقررات المؤيدة لفلسطين والمعادية لإسرائيل. ازدادت الجرأة لدى الجماعات الموالية لإسرائيل لتقديم شكاوى إلى مكتب الحقوق المدنية، متهمين إدارات الجامعات بالتغاضي عن معاداة السامية بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس. في مواجهة هذه الضغوط، بدأت الجامعات بالخضوع.
خلال صيف 2024، استعانت الجامعات بمستشارين أمنيّين لإعادة صياغة مدونات السلوك لأعضاء هيئة التدريس والطلاب، وأُلغِيت مقررات دراسية، وتم إسكات أصوات أعضاء هيئة التدريس، حتى إن جامعة كولومبيا أنشأت مكتبًا يشجّع الطلاب على تقديم شكاوى ضد الطلاب والأساتذة المؤيدين لفلسطين.
كان القمع في أوجّه. ومع انتخاب دونالد ترامب، تصاعدت الضغوط.. أصبحت جامعة كولومبيا «كبش الفداء» بسبب مكانتها المرموقة واستعدادها للخضوع. وعلى الرغم من جهود الجامعة، فقد أعلنت إدارة ترامب، الأسبوع الماضي، عن خفض 400 مليون دولار من المِنح الفيدرالية المخصصة للجامعة. كان واضحًا أن ترامب أراد تلقين الجامعة الدرس نفسه الذي لقّنه لأوكرانيا (ولغيرها من الدول أو الجامعات بشكل غير مباشر): «افعلوا ما أطلبه وإلا ستُعاقبون». ثم جاء إعلان ترامب عن ترحيل طالب دراسات عليا في الجامعة بتهمة معاداة السامية. لم يكن هناك أيّ دليل على أنه قال أو فعل شيئًا يبرر هذه التهمة، باستثناء أنه كان المفاوض الرئيس باسم الطلاب المحتجين.
يبدو أن الهدف من هذه الخطوة هو بثّ الخوف، وإسكات الانتقادات الموجهة لإسرائيل، وإجبار الجامعة والطلاب وأعضاء هيئة التدريس على الاستسلام أمام هذا التوجه القمعي نحو الحكم الاستبدادي. ومع استمرار الاحتجاجات الواسعة ضد هذا الترحيل المرتقب، يبقى أن نرى ما إذا كان أمر الترحيل الذي أصدره ترامب سينجح، أم سيُسفر عن نتائج عكسية.
في كلتا الحالتين، فإن الضرر قد وقع، ليس فقط على حرية التعبير، بل أيضًا على مفهوم الحرية الأكاديمية ذاته، الذي طالما كان سمة مميزة للتعليم الأميركي.
* رئيس المعهد العربي الأميركي – واشنطن
تعليقات