وجدي الأهدل*
لقد ضقت ذرعًا بموجة الروايات التي تتخذ من البيئة المحلية ديكورًا، ويبرز فيها التراث الشعبي فاقعًا، وتتشدق فيها الشخصيات باللغة الدارجة، والسبب هو أنها تقلد بلا هدف، وتمضي بلا بوصلة، ولا تعطي القارئ المكافأة الثمينة المتمثلة في التنوير.
بعد سنوات من البحث، حصلت على رواية “أشياء تتداعى” للكاتب النيجيري تشنوا أتشيبي، التي جرى حولها الكثير من النقاش، والأخذ والرد، فهي الرواية الأفريقية التي كسرت حدود المحلية، فترجمت إلى 50 لغة، وبيعت منها ثمانية ملايين نسخة، وصارت حديث العالم.
نعم، في هذه الرواية نجد النكهة المحلية قوية جدًا، والتراث الشعبي الأفريقي طاغيًا، والمفردات الدارجة والأمثال الشعبية والشتائم السوقية كلها متوفرة، لكن كل هذا لم يكن بغرض الزخرفة، أو الاستعراض لإبهار الأجانب، وإنما أتى لهدف محدد: الرد على الروايات والكتب التي كتبها مثقفو الغرب عن الأفارقة.. أيّ تلك التي كتبها المثقفون الأوروبيون على مر القرون وتبنت وجهة نظر الغرب بشأن الشعوب في أفريقيا، والتي تم اختزالها غالبًا تحت تعميم مهين “الشعوب البدائية”.
إن الأفارقة يظهرون في الرواية الغربية كمخلوقات أدنى، بلا لغة ولا ثقافة ولا عادات وتقاليد، ولا حياة اجتماعية طبيعية!
يقلب تشينوا أتشيبي الطاولة عليهم كما يقال، ففي عمله “الأشياء تتداعى” يُظهر أن الأفارقة بشر وليسوا بدائيين، لديهم حياة اجتماعية غنية ومتنوعة، تشمل عادات وتقاليد الزواج والولادة والوفاة، وكذلك المناسبات الاجتماعية المعهودة كما لدى الشعوب في القارات الأخرى، ولديهم معتقدات دينية حافلة بالأساطير والمقدسات.. كما أن لهم لغتهم الضاربة في القدم، اللغة التي نجد فيها أرقى أشكال التعبير كالشعر والأمثال الشعبية، كما أن الغناء والرقص والموسيقى لها مكانة عظيمة في حياة الإنسان الأفريقي.
اتخذ تشينوا أتشيبي شخصية (أوكونكو) نموذجًا للشخصية الأفريقية، فهو شجاع ومقاتل من الدرجة الأولى، يتميز ببنية جسدية وعضلية قوية جدًا، كما أنه نشيط ومحب للعمل، وإلى جانب مزاياه الشخصية الحسنة فإنه عضو فعال في المجتمع، وركن من أركان القبيلة، ولديه الميل الطبيعي لاحترام تراث الآباء والأجداد.
يدشن تشينوا أتشيبي روايته بافتتاحية موحية بما هو بصدده عن رفعة الإنسان الأفريقي ومجده:
“ذاع صيت أوكونكو في القرى التسع وحتى فيما وراء حدودها. اعتمدت شهرته على إنجازات شخصية خالصة. فحينما كان شابًا في الثامنة عشرة حقق لقريته شرفًا عظيمًا عندما هزم أمالينز، الشهير بأمالينز “القط” هزيمة نكراء. كان أمالينز مصارعًا عظيمًا، لم يقهره أحد، من أوموفيا حتى مبانيو خلال سبع سنوات كاملة. أُطلق عليه القط لأن ظهره لم يلمس الأرض أبدًا. إنه هو ذلك الرجل الذي طرحه أوكونكو أرضًا في قتال استقر رأي شيوخ القرية عليه بأنه أشرس قتال، منذ أن صارع مؤسس بلدتهم روح البراري طوال سبعة أيام وسبع ليال”.
القوة البدنية والشجاعة والمهارة في القتال هي أكثر الأشياء التي يقدرها المجتمع الأفريقي، إنه مجتمع يعج بالأبطال، وحتى في أساطيره نلاحظ أن العنصر الملحمي فيها يأتي من البطولة التي يبديها الإنسان في صراعه مع الطبيعة.
يشيد تشينوا أتشيبي حياة (أوكونكو) حجرًا حجرًا منذ ميلاده وحتى مماته، وتحت كل جملة يكتبها يمكنك أن تضع مئة خط؛ كل واحد منها ينبهك أنك أمام إنسان طبيعي كامل الإنسانية، لا كما تُصوره بعض الأدبيات الغربية الاستعمارية كمخلوق بدائي لا يمكن أن يوضع على قدم المساواة مع الإنسان الأوروبي.
يتزوج (أوكونكو) ثلاث زوجات، وينجب ذرية من الأولاد والبنات، ويعمل منذ شروق الشمس وحتى غروبها في أرضه الزراعية، ويحقق ثروة من عمله الشاق المضني.
إنه إنسان شريف، يأكل من عرق جبينه، ويساهم في مختلف الأنشطة الدينية والحربية والاجتماعية لبني قومه، وكان يفترض أن تمضي دورة حياته على النحو الذي مضت عليه حياة أبائه وأجداده من قبل، ولكن حدثًا غير متوقع غيَّر كل شيء.. في الثلث الأخير من الرواية يظهر مخلوق غامض: الرجل الأبيض!
في القرية المجاورة لقرية أوكونكو يظهر رجل أبيض البشرة راكبًا على جواد حديدي.. سكان القرية قتلوا الرجل الغريب وقيدوا الجواد الحديدي إلى شجرة. أتى رجال غرباء للبحث عن الرجل الأبيض، فلما وجدوا دراجته مربوطة بالشجرة أخذوا يحققون في الأمر. بعد ذلك أتت قوات بأسلحة حديثة وأبادت القرية عن بكرة أبيها، لم يستثنوا أحدًا ولا حتى الأطفال.
بعدها أتى قسيس إلى قرية أوكونكو، وطلب أرضًا ليبني عليها كنيسة. تشاور شيوخ القرية ثم قرروا منح القسيس أرضًا في غابة الشر، وهو مكان ظنوا أن القسيس لن يعيش فيه أكثر من ثلاثة أيام، فهي أرض مسكونة بأرواح شريرة، ولكن القسيس لم يمت وبنى كنيسته ونشط في التبشير. ثم تلا الكنيسة بناء مدرسة للتعليم بلغة الرجل الأبيض.. انضم العديد من أفراد القبيلة إلى الدين الجديد، وانقسمت القبيلة على نفسها، وظهرت بوادر الصراع بين الوثنيين والمؤمنين بالمسيح، وصدم أوكونكو عندما علم أن ابنه البكر قد اعتنق المسيحية.. وشيئًا فشيئًا يبدأ هذا المجتمع الأفريقي المتماسك بالتداعي:
“بالإضافة إلى الكنيسة جاء الرجال البيض بحكومة أيضًا. بنوا محكمة يحكم فيها حاكم المنطقة في القضايا بجهل. كان لديه حراس يستدعون الرجال له للمثول أمامه للمحاكمة. العديد من هؤلاء الحراس جاءوا من أمورو الواقعة على ضفاف النهر العظيم، حيث جاء البيض من عدة سنوات، وحيث قاموا ببناء مركزًا للدين والتجارة والحكومة. حراس المحكمة هؤلاء كانوا مكروهين جدا في أوموفيا، لأنهم غرباء ومتغطرسون ومستبدون.
كانوا يُسمون كوتما، وبسبب سراويلهم رمادية اللون اكتسبوا اسمًا إضافيًا وهو الأرداف الرمادية. كانوا يحرسون السجن الذي كان مملوءًا بالرجال الذين انتهكوا قانون الرجل الأبيض”ص242.
رواية “الأشياء تتداعى” رواية فلسفية دون أن تبذل مجهودًا يذكر في التفلسف، فهي تصور لحظة اللقاء بين الأوروبيين والأفارقة لكن من وجهة نظر الآخر (الأفريقي) الذي امتلك أخيرًا لسانًا ليشرح وجهة نظره عبر الروائي تشينوا أتشيبي.
لا شك أن تشينوا أتشيبي (1930-2013) كان يستحق جائزة نوبل للأدب عن جدارة، ولكن كيف تمنح له وهو الذي أدان حضارة الرجل الأبيض؟! لذلك كان من المنطقي أن تتجنب لجنة جائزة نوبل للأدب هذا المؤلف الذي تجاسر على تجاوز الخطوط الحمراء كلها.
اعتمدت في هذه القراءة على ترجمة عبدالسلام إبراهيم التي أصدرتها دار إبييدي عام 2021 بالقاهرة، وتقع في قرابة ثلاثمئة صفحة.
ظننت أن هناك مبالغة في تقدير رواية “الأشياء تتداعى”، ولكن عندما قرأتها تبينت أن كل ما قيل عنها قليل بحقها.
لا توجد تقنيات فنية مبهرة في “الأشياء تتداعى”، ولكن توجد زاوية رؤية جديدة تنبعث من بين السطور. العبقرية ليست في التعقيد، العبقرية هي أن تقول أكثر الأشياء صعوبة ببساطة وتواضع.
* روائي وكاتب يمني


تعليقات