Accessibility links

وجدي الأهدل*

في الآونة الأخيرة لاحظ جميع اليمنيين ارتفاع معدلات الجريمة في اليمن بشكل غير مسبوق، فلا يكاد يمر اليوم الواحد أو اليومين إلا ونسمع عن حادثة قتل في هذه المحافظة أو تلك، والظاهرة في تصاعد مرعب، وكأن القتل صار أسهل من شرب الماء في اليمن!

أمضيتُ قرابة الأسبوعين في مدينة الشارقة بالإمارات، وأهم ما لفت انتباهي هناك، هو الشعور بالسكينة والطمأنينة. هذا الشعور ينتقل إليك بالتدريج من الناس الذين يعيشون على تلك البقعة من الأرض، سواءً كانوا مواطنين أو أجانب، وعندما تخالطهم يُعْدُونك بهذا الإحساس العجيب النادر: إنك آمن تمامًا، ولا أحد يضمر لك شرًا..

أحسب والله أعلم أن نعمة الأمان هي أعظم نعمة يسبغها الله على الإنسان.. فما قيمة المال أو العلم أو الصحة إذا كان الأمان مفقودًا؟؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا”. فهذا نبينا يضع (الأمان) في الدرجة الأولى من النِعَمِ. ثم تليها نعمة الصحة، ثم نعمة المال.

يمكن للإنسان أن يسعى ويجتهد لتحصيل المال، ويمكنه أن يتغذى غذاءً صحيًا ويمارس الرياضة ليحافظ على صحته، وأما (الأمان) فليس بإمكان الفرد تحصيله بجهوده الذاتية، فهو محتاج إلى تعاون الجماعة البشرية كلها للوصول إلى هذه النعمة التي لا تقدر بثمن.

(الأمان) الذي هو أعلى نعمة يحصل عليها الإنسان أمر منوط بالدولة.. بل إن توفير (الأمان) للمواطنين هو الغرض الحقيقي من إنشاء الدول.

في أي مكان من العالم ترتفع فيه معدلات الجريمة، فإننا سنلاحظ أن الدولة في تلك البقعة إما قد انهارت أو انحسر نفوذها وصار شكليًا.. هذا الارتباط بين الدولة ومعدلات الجريمة ملحوظ عيانًا في اليمن.

قوة الدولة تعكس نفسها في انخفاض معدلات الجريمة.. والعكس صحيح.

على سبيل المثال ارتفاع معدلات الجريمة في الولايات المتحدة هو مؤشر حقيقي على تدهور قوة الدولة.. لا أتحدث عن التسليح، فأمريكا هي أقوى دولة مسلحة في العالم، ولكن أتحدث عن الكيان المؤسسي للدولة.. وإصلاح هذا الخلل في بناء الدولة يسير، ولكن القوم في غفلة، رغم أن في بلادهم نخبة من خيرة العقول في العالم.

بغض النظر عن شكل نظام الحكم، فإن على الدولة إذا أرادت أن تجلب (الأمان) إلى أراضيها، أن تقوم بأمر واحد: نزع السلاح من أيدي المواطنين.

أدت الحرب في اليمن إلى انتشار اقتناء السلاح الناري في المدن والأرياف، فلا يكاد يخلو بيت يمني من مسدس أو بندقية، وربما عدة قطع متنوعة، فالكل لديه هاجس الدفاع عن نفسه، واستخدام تلك الأسلحة وقت الحاجة، ولدرء الظلم إن تعرض لمظلمة من قريب أو غريب.

فقد المواطن اليمني ثقته في جهاز الشرطة، ويئس من عدالة القضاء، فالقوي يغلب الضعيف، والغني يستحكم على الفقير، فلا مناص من أن يدافع عن حقوقه بما تحت يده.

هل يجوز الآن مطالبة المواطنين اليمنيين بتسليم أسلحتهم لتنخفض معدلات الجريمة؟ التوقيت غير مواتٍ ولا شك، فيجب أولًا قيام دولة مركزية قوية، تستند على جهاز شرطة فعال ونزيه، وقضاء شريف مستقل، وبعد تحقق ذلك، يمكن لاحقًا أن تصدر الدولة قانونًا يُجرّم امتلاك المواطنين الأسلحة بمختلف أنواعها.

لن تقف الدولة على قدميها في اليمن ما دام السلاح منتشرًا بين أيدي المواطنين.. ستظل الدولة جاثية على ركبتيها تستجدي العون وكأنها من ذوي الاحتياجات الخاصة!

في الشمال قامت الثورة في السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962، ووضع النظام الجمهوري ستة أهداف للثورة، وكل اليمنيين يعرفونها جيدًا، وهي أهداف ممتازة دون ريب، ولكنني لاحظت مع الأسف خلوها من هدف أراه أهم من كل تلك الأهداف الستة مجتمعة:

نزع السلاح من المواطنين والقبائل، وحصر امتلاك السلاح بيد الدولة وحدها.

وكما أسلفنا، فإن الخطوة رقم واحد لبناء صرح الدولة هو سحب السلاح من الشعب، وحصره بيد الدولة، ثم بعد القيام بهذه الخطوة المبدئية يمكن تنفيذ وتطبيق تلك الأهداف الستة التي وردت في بيان الثورة.

أدى عدم التطرق إلى هذه النقطة الحساسة -سحب السلاح من الشعب- في بيان الثورة إلى الضعف المزمن للدولة في اليمن.

ونخلص من هذا كله، أن وفرة السلاح في أيدي المواطنين كارثة عليهم هم أنفسهم أولًا، وعلى مجتمعهم ثانيًا، وعلى الدولة التي يفترض أنهم يعيشون في كنفها ثالثًا.

الخلافات والمشاحنات موجودة في كل المجتمعات، تحدث يوميا وتمر مرور الكرام، أو بجروح وكدمات، ولكن حين يكون السلاح الناري في متناول اليد، فإن الغضب يقود إلى استعماله.. وبعد وقوع المصيبة، يأتي الندم، ولكن هيهات وقد أُريق الدم.

لن تقوم لليمن قائمة إلا بعد أن يتخلى القبيلي عن السلاح ويتعلم أنه فلاح لا قابض أرواح.

* روائي وكاتب يمني

تعليقات