Accessibility links

جيمس زغبي*

في الأسبوع الماضي، وبدعوة من إحدى مجموعات المحاربين القدامى، سافرتُ إلى ولاية أيوا لإلقاء كلمة بمناسبة يوم الهدنة، وهو اليوم الذي يُخلِّد ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى. وبدلاً من تقديم كلمات تقليدية تُركِّز على الجنود الشباب الذين خدموا وقاتلوا وماتوا، تناولتُ في حديثي أثر تلك الحرب، لا سيما على شعوب العالم العربي وعلى الجالية العربية الأميركية. وقد اخترتُ عنوانًا لخطابي: «كيف زرعت الحرب التي أنهت جميع الحروب بذور قرن من الصراع». أولاً: التأثير على العرب الأميركيين: بدءًا من النصف الأخير من القرن الـ19، شهدت الولايات المتحدة موجةً هائلة من المهاجرين من أوروبا ومن بلدان حوض البحر المتوسط. وقد وجد كثيرون في هذه الأرض الجديدة الحريات والفرص التي وعدتهم بها، لكن الحرب العالمية الأولى هي التي منحت كثيرين منهم إحساسًا بالانتماء، وبأنهم أميركيون حقيقيون.

في بهو النادي التابع للجالية اللبنانية في بيوريا، إلينوي، تتدلّى على الجدار صور جماعية لأبناء تلك الجالية، الذين خدموا في الجيش الأميركي خلال مختلف الحروب، من الحرب العالمية الأولى، مرورًا بالثانية، فحربَيّ كوريا وفيتنام، وصولاً إلى أفغانستان والعراق.

يشعر اللبنانيون في بيوريا بالفخر لخدمتهم أميركا، ويمكن رؤية ذلك الفخر في وجوه الفتية في الصور. ويمكن رؤية صور مماثلة في المراكز الإيطالية واليونانية في أنحاء الولايات المتحدة.

لكن الحقيقة أنّ الحماس الوطني الذي ولّدته الحرب داخل هذه المجتمعات المهاجرة تحوّل إلى موجة من كراهية الأجانب استهدفتهم لاحقًا. فقد بدأت باستهداف المهاجرين الألمان، ثم اتسعت لتطال أولئك الذين كانوا يُعتبرون «أكثر غُربة» من غالبية سكان شمال أوروبا. استُهدف الإيطاليون واليونانيون والسوريون (وهو المصطلح العام المستخدم للإشارة إلى عرب بلاد الشام) بشكل خاص. وشهدت المنطقة هجمات وعمليات إعدام خارج نطاق القانون، وسُنَّت تشريعاتٌ للحد من الهجرة من منطقة البحر المتوسط ​​ثم القضاء عليها. (قال السيناتور الذي قاد هذه القضية مقولتَه الشهيرة: «لسنا بحاجة إلى مزيد من الحثالة السورية في أميركا»).

واستمرّ هذا المنع للمهاجرين من تلك البلدان طوال جيل كامل، مما أدى إلى تفكُّك العائلات والخوف والمعاناة لمئات آلاف الأسر المهاجرة.

ثانيًا: التأثير على المشرق العربي: اتُّخذت العديد من القرارات الكارثية من جانب الحلفاء المنتصرين بعد الحرب العالمية الأولى. وقد ركّز المؤرخون كثيرًا على التعويضات القاسية والمهينة المفروضة على ألمانيا، والتي مهّدت الطريقَ لصعود النازية واندلاع الحرب العالمية الثانية. لكن ما لا ينبغي أن يُنسى هو الإجراءات التي اتخذتها القوى الأوروبية المنتصرة، والتي كانت لها عواقب وخيمة على الشرق الأوسط. كان أهمها خيانة التزامها تجاه العرب بالاعتراف بدولة عربية موحّدة في بلاد الشام إذا انضم العرب إلى جهود الحلفاء وفتحوا جبهة جنوبية ضد الإمبراطورية العثمانية. وبدلاً من ذلك، تواطأت بريطانيا وفرنسا لتقسيم المنطقة بينهما. وقطّعتا المشرق العربي إلى «دول» ذات حدود. كما قدّم البريطانيون وعدًا منفصلاً للحركة الصهيونية الناشئة بمنحها فلسطين كوطن لليهود. وتحت ذريعة أنّ العرب غير مستعدين للحكم الذاتي، رتّبت بريطانيا وفرنسا حصولهما على انتدابات لتصميم وإقامة حكومات في المناطق التي قسّمتاها بما يناسب مصالحهما.

أما الإدارة الأميركية فاعترضت على هذه الترتيبات البريطانية الفرنسية، بحجة أنّ من حق العرب أن تكون لهم كلمة في تقرير مستقبلهم. ولذا أمر الرئيس ويلسون بإجراء مسح واسع للرأي العام العربي، وأظهرت نتائجُه أنّ أغلبية ساحقة تعارض التقسيمات، وتعترض على الانتدابات، وترفض إقامة وطن منفصل لليهود. لكن البريطانيين رفضوا تلك النتائج، قائلين إنّ آراء العرب ليست مهمة بالنسبة لهم.

بعد مرور مئة عام، لا يزال العالم يعيش تبعات تلك القرارات الأوروبية، التي غيّرت وجه الشرق الأوسط. وحين يتساءل بعض السياسيين في الغرب: «لماذا الشرق الأوسط بؤرة للصراع؟»، تكمن الإجابة في الطريقة التي تمّ التعامل بها مع المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى. فبدلاً من أن تكون «الحرب التي ستُنهي كل الحروب»، كما سُمِّيت، كان البريطانيون والفرنسيون هم من خلقوا الصراعَ العربي الإسرائيلي، بالإضافة إلى صراعات طائفية وإقليمية أخرى.

هناك عنوان رئيسي شهير في إحدى الصحف يعود إلى يوم الهدنة سنة 1918 وُصِفَ يوم 11 نوفمبر بأنه «أعظم يوم في تاريخ البشرية». لا أدري إنْ كان الرئيس دونالد ترامب يفكر في هذا العنوان، عندما أعلن أن توقيع اتفاق السلام بين إسرائيل و«حماس» هو «أعظم يوم في تاريخ البشرية». وأيًا يكن، فهناك قدر كبير من التبسيط؛ لأنّ هذه الحرب الأخيرة، مثل الحرب العالمية الأولى، و«اتفاق السلام» الذي أعقبها، قد لا يقودان إلى السلام، بل إلى قرن آخر من الحرب.

ينبغي أن يكون الدرس واضحًا: الحروب لا تُنهي الصراعات، بل العدالة وحدها كفيلة بذلك. وخطة ترامب والسلوكيات الإسرائيلية، مثل الخطط والإجراءات الأوروبية في نهاية الحرب العالمية الأولى، ستؤول إلى المصير نفسه.

* رئيس المعهد العربي الأميركي – واشنطن

تعليقات