Accessibility links

المياه والنفط.. تحذير من المرحوم الدكتور فرج بن غانم..!


عبدالله الصعفاني*

كان ذلك الصباح صافي الذهن الحكومي، ومتوقد الحماس الإعلامي.. التقى رئيس الوزراء المرحوم الدكتور فرج بن غانم بهيئة تحرير صحيفة الثورة برئاسة الأستاذ الكبير المرحوم محمد الزرقة، في مبنى رئاسة الوزراء بصنعاء.. وكانت المرة الأولى، وربما الأخيرة التي يلتقي فيها رئيس حكومة بهيئة تحرير صحيفة بكل قيادتها.

* ولست هنا في وارد التوقف أمام تفاصيل اللقاء الصحفي الذي تشرفت بالمشاركة فيه، أو التذكير بأن فرج بن غانم كان رجلاً صارمًا في رؤاه التصحيحية التي قادته إلى الاستقالة، وإنما أمام عبارة واحدة قالها، واحتلت العبارة تلافيف ذاكرتي منذ سنين طويلة، وما تزال تعصف بي وتشد أذني.

* قال الدكتور فرج بن غانم: مشاكل اليمن لها أول، وليس لها آخر.

وفي طليعة المشاكل ذات الطبيعة الاستراتيجية المغلوطة، أننا نستهلك حصص الأجيال القادمة.. وتوضيحًا للصورة قال – رحمة الله تغشاه:

* النفط الذي نستخرجه من باطن الأرض اليمنية ليس ملكنا وحدنا، نحن الذين نستهلكه الآن، وإنما هو حق من حقوق الأجيال اليمنية القادمة.

وما ينطبق على النفط يسري على مخزون المياه التي نعبث بها، دونما امتلاك لرؤية أو فكرة تستوعب متطلبات الحاضر والمستقبل.. والحق أن ابن غانم أراد توجيه رسالة للخاصة والعامة، أوضح فيها حقيقة أننا أسرى مفاهيم مغلوطة، ما جعلني أستعين بيني وبين نفسي بدعاء: اللهم حبب للشعب اليمني فكرة اقتلاع القات، وزيٍّن له زراعة الثمار والورود، وكراهية الغبار والوسخ والفوضى، وارزق مسؤوليه حسن الحوار والسلام.

* وأوضح بلغة شديدة التأثر:

غير صحيح أن مواردنا من النفط والمياه مصادر متجددة بالمطلق، أو أنها غير قابلة للاستنزاف.. إنها محدودة وتتناقص.. ما يعني أننا نعبث بثروات ليست ملكنا وحدنا، وإذا كان ولا بد من استنزافها، فالمفروض أن يكون ذلك في إطار رؤية تضمن عائدات استثمارية من خلال مشاريع عملاقة فيها تجديد للموارد العامة..! وأعتقد أن ابن غانم مات وهو يعيش الشعور بالاكتئاب مما يعيشه اليمن.. وترجَّل جواد المنصب والحياة كالأشجار عندما تموت واقفة.

* وبمناسبة الأشجار.. وحتى لا نواصل غرقنا في صحراء الأزمات والتفاهة سأواصل الهروب هنا إلى المياه وإلى الزراعة، حيث لا زراعة ولا أشجار مثمرة بدون ماء بسبب ثقافة الاستثمار الاستهلاكي الأخرق، وإنما استثماره بوعي وإدراك أن التناقص في مخزون المياه يهدد البلاد والعباد، من الصحة العامة للسكان، إلى التنمية الزراعية، فيما منسوب المياه الجوفية يتدهور ويتناقص حتى في نوعيتها بسبب التلوث من جهة وآفة انتشار زراعة القات المسموم والاستخدام العابث، ووصول حفر الخزانات الأرضية إلى الأعماق البعيدة..!

* ولو كنا في اليمن ندرك تداعيات الفرجة على مشاكلنا لاستوعبنا من وقت مبكر خطأ الفرجة على اعتلال العلاقة بين المفقود وبين المخزون، ولأدركنا أن مشاكل المياه تمثل في عالم اليوم سببًا ظاهرًا أو مخفيًا لأزمات وحروب تتجاوز في حقيقتها الخلاف على الارض إلى الخلاف على مخزون المياه الساكن في أعماقها.

* وغير خافية هي دلالات ومعاني انعقاد عشرات المؤتمرات الدولية الخاصة بمشاكل المياه التي أضحت سببًا مهمًا من أسباب الأزمات والدوافع للحروب أو التلويح بها.. ويكفي الإشارة إلى خفايا طمع الكيان المقيت في المياه العربية، حيث انتهت كل متواليات الحرب والهدنة، واتفاقيات السلام بتحقيق ما يريده المحتل من المياه.

* وحتى قبل أن يظهر الطوفان الأخير وتداعياته المنظورة كان الكنيست أعلن بأنه “يجب على غزة أن تحل مشكلة نقص المياه من نهر النيل وليس من إسرائيل”، حسب تعبيره.

وفي شل قدرة سوريا على استخدام المرتفعات في الجولان وما وراء الجولان ما يكشف أن المياه هي جزء أصيل في استيلاء الكيان على الأراضي العربية في كل اتجاه.

 * وأتذكَّر أن الرئيس أنور السادات أعلن ذات يوم أن نزاع مصر وأثيوبيا على مياه نهر النيل سيقود إلى حرب، وهو ما تكرر من الرئيس عبدالفتاح السيسي، حتى وما تزال النيران تحت الرماد.

ولا مبالغة في القول، تبقى المياه أحد عوامل سيطرة الكيان إياه على الأراضي العربية، والرغبة المتجددة في تهجير سكان غزة.

* ومشكلتنا في اليمن مع المياه أن بدائل استنزاف المخزون الأرضي من المياه بدائل صعبة، حيث لا قِبَل لنا بمعالجة الصرف الصحي أو تحلية مياه البحر، وجميعها باهظة التكاليف.. والأسوأ أن مياه الأمطار تأخذ طريقها إلى البحرين الأحمر والعربي، بسبب انشغال فرقاء السياسة بالصراع عن بناء السدود، وعدم توفر المناخ الاقتصادي والاستثماري لإنشاء السدود التي تحول بين مياه الأمطار وبين التوجه إلى البحر..!

* قد يقال بأن ما يعيشه اليمن من أزمات وتصدع في كل شيء لا يجعل مشكلة المياه ذات أولوية، وهذا قول غارق في الخطأ، لأن من باب أولى أن تحتل مشكلة المياه أولوية في حياة الناس، حتى لو انشغل المتصارعون على السلطة بتصديع جدار اليمن وأعمدة خيمته.

* وإلى أن يفتح الله على اليمن بقيادة موحدة تعيد لليمن توازنه وسلامه، لا بد من أن تشتغل كل سلطة داخل اليمن على فضيلة إدراك أن الموارد المائية ملكية عامة، وأن من أبجديات المسؤولية إيقاف عمليات الحفر إلى الطبقات العميقة، ومنع الاستنزاف غير العادل لمخزون أجيال لن نترك لها إلا خراب الأزمات والحروب.

* وهنا لا يمكن إغفال أهمية أن يدرك المواطن أيضًا بأن استنزاف المياه بدون وعي، سيقود إلى كوارث مستقبلية، من الجفاف والعطش وانتشار المزيد من الأمراض بسبب استخدام المياه غير النقية.

* ويبقى الذي حذّر منه الدكتور فرج بن غانم تعليقًا للجرس من خطورة الاستمرار في استهلاك حصص الأجيال القادمة التي لن نورث لها غير المصائب والكوارث..!

* كاتب يمني

تعليقات