Accessibility links

جيمس زغبي*

قبل قرن من الزمان، كتب خليل جبران قصيدة حب للبنان بعنوان: «لكم لبنانكم، ولي لبناني». وتحدث فيها عن محبته للشعب اللبناني وكرمه وضيافته وجمال بلاده، في مقابل السياسيين المتناحرين الذين لا يسعون إلا لتحقيق مصالحهم الشخصية. رأيت في تلك القصيدة أوجه شبه بين التناقضات التي كانت تميّز لبنان آنذاك، وتلك التي تعصف اليوم ببلدي، الولايات المتحدة الأميركية.

اليوم، يعيش العديد من الأميركيين في خوف ويأس، وهم يشاهدون رئيسهم، دون رادع على ما يبدو، يهدم بعض أسس الديمقراطية، ويدمر برامج اجتماعية واقتصادية أساسية. يتساءلون: «كيف يمكن أن يحدث هذا؟»، و«هل يمكن لبلدنا أن يصمد أمام هذا الهجوم؟».

لكن بينما يشعر البعض باليأس، اندفع آخرون إلى الفعل. قبل أسبوع فقط، خرج سبعة ملايين أميركي إلى الشوارع في 2700 مدينة وبلدة لإظهار عزمهم على إنقاذ ديمقراطية أميركا، ووقف الانجراف نحو الاستبداد.

إنها تذكرة بأن هناك أميركتين لطالما عرفهما التاريخ الأميركي: إحداهما تسعى إلى تقييد الحريات الديمقراطية، والأخرى تعمل على توسيعها.

وُلدت أميركا وهي تحمل معها الخطايا الأصلية المتمثلة في الإبادة الجماعية للسكان الأصليين، والاستعباد القسري للأفارقة، وضمّ الشعوب الناطقة بـ«الإسبانية» في الجنوب الغربي وإخضاعها. ومع نمو البلاد واستقطابها للمهاجرين، واجه هؤلاء الوافدون الجدد، من أيرلنديين وإيطاليين والقادمين من أوروبا الوسطى واليهود والعرب، في كثير من الأحيان التمييز والقمع، بل وحتى العنف.

لكن هذا لم يكن سوى جانب واحد من قصة أميركا.. فمقابل كل عنصري، أو متشدد، أو مناهض للهجرة، كان هناك مناهضون للعبودية، ونظموا حركات دافعت عن المهاجرين، وحقوق العمال، والحقوق المدنية للسود، واللاتينيين، والسكان الأصليين. ومقابل كل كاره للأجانب مثل الأب كوجلين أو بات بوكانان، أو متشدد مثل بول كونور أو جورج والاس، كان هناك مارتن لوثر كينج، وسيزار تشافيز، وجيسي جاكسون. ورغم التعصب المستمر وموجات التعصب المتكررة ضد المهاجرين، فإن ما تبقى هو جوهر خطاب الدكتور مارتن لوثر كينج «لدي حلم» وروح كلمات تمثال الحرية التي رحّبت بـ «المتعبين والفقراء المتلهفين للحرية».

هذه قصة عائلتي أيضًا بعد الحرب العالمية الأولى، هاجرت والدة والدي وإخوته إلى أميركا، لكن والدي تأخر ولم يتمكن من الحصول على تأشيرة دخول؛ لأن الكونجرس قرر أن هناك عددًا كبيرًا من المهاجرين من منطقة البحر المتوسط. وبدافع الشوق إلى لمّ الشمل مع عائلته، عمل على سفينة متجهة إلى كندا، ثم عبر إلى الولايات المتحدة دون وثائق عام 1923. حصل على عفو في الثلاثينيات وأصبح مواطنًا أميركيًا عام 1943.

بعد أربعة عقود، وأثناء عملي كنائب مدير حملة جيسي جاكسون الرئاسية، أُتيحت لي فرصة ترشيحه في مؤتمر الحزب «الديمقراطي» عام 1984. وبينما كنتُ أتأمل تاريخي الشخصي والقصة الأميركية الأوسع، قلتُ: «أنا ابن مهاجر غير شرعي يُرشح للرئاسة حفيد عبدٍ سابق. لا يمكن أن يحدث هذا في أي مكان سوى أميركا».»

هاتان هما أميركتان، ترافقاننا دائمًا، ويجب ألا ننسى أيًا منهما. فإذا نسينا التهديدات التي تواجه الحرية، تراخينا وأصبحنا عرضة للهجمات عندما تعود. وإذا نسينا وعد أميركا والأبطال والحركات التي قاومت وانتَصرت في كل جيل، فإننا نفقد الأمل ولا نقدر على مواجهة التحديات التي تواجهنا.

ولمن يقولون إن ما يحدث اليوم «غير أميركي»، من محاولات لتقويض حقوق التصويت، وتقييد الهجرة، واستخدام القوة العسكرية لطرد المهاجرين بعنف، وتهديد حرية التعبير والتجمع، يجب أن نذكّرهم: لقد مررنا بهذا من قبل، ونهضنا لمواجهة هذه التهديدات للحرية، وانتصرنا.

في حياتي فقط، شهدنا فترات مظلمة أخرى: الهستيريا والقمع الناجم عن الخوف المُصطنع من الشيوعية في عهد مكارثي، والعنصرية والعنف اللذان أعقبا حركة الحقوق المدنية، واغتيال جون وروبرت كينيدي والدكتور كينج، والانقسام العميق بسبب حرب فيتنام، والصدمة الوطنية لهجمات 11 سبتمبر وما تلاها من جرائم كراهية ضد العرب والمسلمين وقمع حكومي، والحروب الفاشلة الكارثية ضد أفغانستان والعراق.. في كل مرة، نهضنا لمواجهة هذه التحديات.

ونظرًا لتاريخنا، أشعر بالثقة بأننا سننهض من جديد في وجه كراهية الأجانب والعنصرية والقمع والكراهية السائدة اليوم. ومثل جبران، سنؤكد: «لكم أميركتكم، ولي أميركتي».

* رئيس المعهد العربي الأميركي – واشنطن

تعليقات