Accessibility links

عبدالله الصعفاني*

يطيب للجميع، كبيرهم والصغير،  الظهور على بعض في وسائل التواصل الاجتماعي  في حالة ارتداء علم الجمهورية اليمنية.. وسواء كان الظهور حنينًا إلى ماضي الوطن الموحد أو حتى من جيز الناس، لا بد من التذكير بأهمية عدم نسيان حقيقة أن الثورات في أرجاء العالم إنما تعني التغيير بدافع التطوير..

* وبالنسبة لي، لا بد من الاعتراف بأنه لم يعد عندي ذلك الشغف الكبير أو حتى الصغير بالثورات والانقلابات والحركات بمختلف المسميات، صريحها والموارب.

* لم يعد يهمني أن تكون الثورة أصلية أو تقليد، قديمة أو جديدة، أو تحت سفود المصطلحات كمصطلح تثوير الثورات، الذي ظهر في محطات يمنية عديدة، متوشّحًا بالأمنيات أن نطل في كل عيد للثورة وكل مناسبة وطنية على حياة متطورة، بالوعي والتنمية والإنجازات الشخصية والعامة، المستندة على قواعد “الاتفاق حول فكرة الوطن”..!

* هذا الموقف الشخصي عندي لم يترسخ بسبب فشل حالة ثورية هنا أو هناك، وإنما بتراكم متابعة، أكدت أن الثورات في مناطق عديدة في العالم الثالث لم تخلق وعيًا عاليًا بقدر ما جعلت الثورات تفطر بأبنائها، وتتغدى بأولادهم وتتعشى بالأحفاد، وما يزال الحبل الثوري على الجرار.

* وما وقعتُ فيه شخصيًا من خيبة أمل من الثورات على الطريقة اليمنية، ينطلق من أسباب ذاتية، وموضوعية أراها غنية بالواقعية، بمعناها المادي والموضوعي.. الحسي منه والمعنوي.. ولسان الحال والمقال ما أحوجنا كيمنيين للحوار وتوحيد الأهداف، انتصارا للحكمة التي كانت، ثم بادت..!

* ما أكثر الثورات اليمنية حين تعدّها، لكن من يصفق لها وحتى بعض من بذل الغالي والنفيس من أجلها دفع أو يدفع الثمن من روحه وأعصابه وطمأنينته.

* عندما قامت الثورة اليمنية الأم 26 سبتمبر 1962 كنت في بدايات اللا وعي بما حولي.. لكن ما عرفته عندما كبرت هو أن والديَّ، أطال الله في عمريهما، فرحا بها، وتمنى أبي وأمي أن يكون في ميلادي وفي الثورة ما يأتي بالخير العميم في كل أمور الحياة.

* ومما أتذكَّره في بدايات السبعينيات وأنا أدرس في كُتَّاب دراسي يحتل الطابق الأرضي للجامع الكبير في قرية الجرواح بمديرية صعفان، أن المعلم الموسوعي المدهش حسين بن علي الحاضري، رحمه الله، وجعل الفردوس الأعلى سكنه الخالد، كان يقود الطلاب في طابور باتجاه ساحة “سوق الثلوث” الذي تتوسطه “تولقة” معمَّرة عملاقة تلقي بظلالها على الجميع وفي كل اتجاه، ليكون هناك من الكلمات والأناشيد الحماسية ما يصعب نسيانه، مهما بلغ الزهايمر منك مبلغه.

* مع كل عيد للثورة كنتُ وزملائي في الصفوف من الأول إلى الرابع، وهي كل الصفوف الدراسية في المدرسة “الكُتَّاب” نتوجه في طابور  إلى المكان الذي يقام فيه الاحتفال الذي يحضره الطلاب والآباء،  وعندما نصل كطلاب إلى طرف السوق الذي يستضيف الاحتفال نشعر بنشوة ارتطام الأقدام بالأرض.. تسيطر علينا الحماسة المتنامية، وقشعريرة الأمل مع كل خطوة من خطوات منتظمة ومسموعة الإيقاع.

* وأتذكر كيف أننا من فرط الحماسة ونحن تحت “تولقة السوق العملاقة” نشعر كما لو أننا في احتفال مهيب في ساحة الكرملين في موسكو أو ساحة “تيانانمن” في قلب بكين.

* عقود طويلة عشناها مع أحلام بعضها تحققت، وكثيرها ظلت أحلامًا مؤجلة بسبب التفريط، ودورات الصراع، وعدم استغلال اللحظات التاريخية الكثيرة في إحداث التحولات المنشودة.

* أتذكر أنه في أيام الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني، كان عندي فضول مبكر لمتابعة نشرات الأخبار التي تتعالى من راديو ديوان بيتنا بعد الغداء، حيث يمتد المقيل المختصر إلى بعد صلاة العصر، ثم يحمل كل شخص مفرسه إلى الأودية والمدرجات.. وخلالها لا بد من الاستماع المنبهر لإذاعة لندن، حيث عالم الظهيرة.. وأيضًا، صوت العرب من القاااااهرة.

* بماكنزمات الطفل المستعجل المتأثر بأضواء ليلة عيد الثورة المنبعثة من خلطات الرماد وديزل الطواحين التي تطوق أسطح البيوت، وكلمات الاحتفال السنوي بصباح العيد.. كنت أتمنى سماع اسم اليمن في نشرات الأخبار سواء بالخير أو حتى بما هو دون ذلك، لكن ذلك لم يحدث.. وكأن الأصل هو بقاء اليمن داخل المجهول ولو بحسابات الأحلام الطرية للأطفال.

* كانت اللمبات الزجاجية الكهربائية المحترقة التي تعود بها جدتي كلما عادت من الحديدة، حيث يقيم أخوها، الله يرحمهما، هي موعدنا المدهش أنا وأولاد العموم والخالة مع ألعاب مبهجة تبعث على دهشتنا وتميُّزنا أمام الأقران؛ لأنها باختصار أكثر إبهارًا من المغارف والكتل الطينية الصغيرة التي نلعب بها.

* وكنت أسأل: لماذا عندما يسافر عمي محمد إلى الحديدة لأيّ غرض يجهزون له من الخبز ما يمكنه من توزيعه على الجائعين في الطريق إلى تهامة.

* وعندما جاءت حركة 13 يونيو التصحيحية وجد الطفل الصغير الذي هو أنا ضالته في خطابات الرئيس إبراهيم الحمدي التي تصل عبر إذاعة صنعاء وإذاعات خارجية.. وهل هناك أجمل من أن تسمع رئيس بلدك الخطيب المفوَّه وينتقد المشايخ وما يفعلون على حساب الرعية، ويخاطب التجار بالقول: كفاية شهر عسل.. لكن خيبة الأمل حلت باستشهاده، ولم يكن في ربط سواعدنا كطلاب بالخرق السوداء أي تعويض.

* وفي عقود حكم الرئيس علي عبدالله صالح كان هناك الكثير من الإنجازات وأيضًا الكثير من العبث الذي اشترك فيه معظم الذين خرجوا عليه في ثورة الربيع العربي بتداعيات لسان حالها وأحوالها: الذين خربوا هم أنفسهم الذين هربوا، ثم تتوالى الصراعات عاصفة على النحو الذي نعيشه اليوم في صورة كنتونات لم نطل منها على وحدة ولا على انفصال.

* ويكفي لتعاظم المأساة والملهاة أنه ليس من نموذج يمني يجتمع عليه الكل ويتم البناء عليه بصورة تحفظ ما كنا نفخر به ونحن نقول بأن الوحدة اليمنية هي نقطة الضوء اليتيمة في ليل العرب.

* ثورات وتثوير للثورات وفواتير نراها في تعدد صور العدوان على اليمن والاستباحة لأراضيه وناسه، مرات بعدوان التحالف، ومرات بأيدي “الكيان” وسط حالة من غيبوبة زمن فرقاء السياسة وتنامي صور الفشل الذي يحتل زمان الإخوة الأعداء.

* والآن.. هل أدركتم معنى أن يتلعثم مواطن وهو يرتدي علم وطنه..؟ إنه الشعور بالحيرة، والتبلد، وتواضع الشغف.

* مع ذلك كل عام ونحن واليمن في رحاب الأمل في الله الكريم.

* كاتب يمني

تعليقات