Accessibility links

وجدي الأهدل*

يبدو لي أن القارئ اليمني مختلف قليلًا عن غيره من القراء في سائر دول العالم، فكثيرًا ما يتصادف أن ألتقي بشخص أو بجماعة في شارع أو مقهى أو فعالية ثقافية، وعندما يحدث التعارف ويعرفون أنني مؤلف، فإنني أسمع منهم الجملة التالية التي تتكرر دائمًا:

“نريد أن نقرأ لك.. هل لديك نسخ من أعمالك؟”.

أحيانًا والله أكاد أخرج عن طوري، وأرد ردًا جلفًا، ولكنني والحمد لله لا أفعل، وأتمالك نفسي، وأعتذر بلباقة أنني لا أمتلك نسخًا من أعمالي.

وعندما يسمع البعض هذا الجواب مني، ترتسم دهشة استنكار على ملامحهم، وعندما أحلف لهم بالطلاق أنني بالفعل لا أمتلك أيّ نسخ من كتبي، يستغربون وترتفع أكتافهم، إذ أنه أمر مستهجن بالنسبة لهم ألا تتوفر نسخ فائضة عن الحاجة لدى المؤلف.

صحيح أن سوق الكتابة كاسد في اليمن، ولكن ليس إلى درجة أن يتوفر عدد لا نهائي من النسخ المجانية لدى المؤلف، وكأنه يغرف من بحر!

المؤلف اليمني سواءً كان مقيمًا في صنعاء أو في القاهرة أو حتى في بيونغ يانغ وتحت رحمة الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، فإن ابن بلده اليمني الذي يلقاه في أيّ مكان من الأرض سيفترض تلقائيًا أن لدى المؤلف نسخًا مخبأة، وأنه لن يضِنّ بها عليه.

حسنًا، للخلاص من هذا الالتباس مرة واحدة وإلى الأبد، سأوضح الحقائق التالية لمن يطلبون نسخًا من المؤلف:

1- لا يوجد مؤلف في الدنيا -واليمن إذا لم تخني الذاكرة جزء من الدنيا- لديه مخزن في بيته يحتفظ فيه بنسخ من أعماله.

2- المؤلفون لا يحملون نسخًا من أعمالهم عندما تلتقيهم في الأماكن العامة أو في الفعاليات الثقافية، وحسب علمي يحملون في جيوبهم سلسة مفاتيح وهاتف نقال وقلمًا وسجائر -إذا كانوا يدخنون- ومحفظة ومناديل يتمخطون فيها، والبعض يحمل أدوية أو نظارة قراءة إذا كانوا مسنين، ونحو ذلك من المتعلقات الشخصية.. كما أنهم لا يستأجرون حمالًا يرافقهم في تنقلاتهم ليحمل نسخًا من أعمالهم في شوال أو ما شابه.

3- المؤلف لا يمتلك مطبعة.

4- المؤلف لا يدير شركة توزيع.

5- المؤلف ليس جمعية خيرية ليهدي كتبه للقراء.

6- سأفشي معلومة محرجة: المؤلف بحسب دراسات علمية موثوقة كائن يتغذى على الخبز، والأدهى أنه يتمنى أن يعيش من عائدات كتبه!

7- المؤلف مهمته أن يكتب فقط، وأما الطباعة والنشر والتوزيع فهذه مهمة دور النشر، وآسف لأن هذه المعلومة الفظة قد تصدم البعض.. ذلك لأن طائفة من القراء في اليمن يتدللون كثيرًا على المؤلفين في بلادهم، ويطالبونهم بالتأليف والطباعة والنشر والتوزيع انتهاءً بدس نسخ مجانية في جيوبهم.

8- المؤلف اليمني لا يولد وفي فمه جائزة العويس، ذلك لأن جمهرة من القراء اليمنيين يذكرون أن كتب الشاعر عبدالله البردوني كانت تباع بأسعار أدنى من تكلفتها الحقيقية.. ثم بوقاحة يقولون لمؤلف من بني جلدتهم لا يملك نقيرًا أن يوزع كتبه كما فعل البردوني!

في جميع أنحاء العالم يقصد القراء المكتبات لشراء الكتب، ولكن لأن اليمن دُفِعَتْ إلى خارج الكرة الأرضية على ما يبدو، فإن القراء لا يطلبون الكتب من المكتبات، ولكن من المؤلف رأسًا! فإذا أرشدت طالب كتابك إلى أنه يباع في المكتبة الفلانية وأعطيته عنوانها، فإنه على الأرجح لن يتحمس لشرائه.

في مرة قادني الفضول لسؤال صاحب مكتبة شهيرة في صنعاء عن سبب عزوفه عن عرض الروايات والأعمال الأدبية المحلية؟ على الأقل لماذا لا يفسح لها حيزًا أسوة بالروايات متواضعة المستوى القادمة من خارج الحدود التي تزخر بها رفوف مكتبته؟ فرد بقوله:

“نحن نعرض ما يطلبه القراء، هذه الروايات هي الرائجة لدى الشباب، وأما أعمال الأدباء اليمنيين فلا أحد يطلبها”.

هذه هي الحقيقة العارية: القراء مستعدون لدفع النقود لشراء روايات من نوعية “انتيخريستوس”، ولكنهم ليسوا على استعداد لإنفاق أموالهم على شراء أعمال أدبية يمنية.

القارئ اليمني يمكن أن يشتري رواية عربية أو أجنبية، ولكن إذا كانت رواية يمنية فإنه يفضل أن يحصل على نسخة مهداة من المؤلف.

لكل شعب من الشعوب عاداته وتقاليده، ومع الأسف نحن اليمنيون أصبحت لدينا تقاليد مزعجة فيما يتعلق بالعلاقة بين المؤلف والقارئ، فمع مرور السنين نشأت علاقة قائمة على الإهداء لا الشراء، وحتى في حفلات توقيع الكتب، نادرا ما يبيع المؤلف أيّ نسخ من كتابه، وإذا وضع نسخا في المكتبات، فقد تمضي سنوات ولا تنفد تلك النسخ على قلتها.

50% من الأعمال الأدبية التي يهديها أصحابها للقراء تبقى كما هي ولا تمس، فعادة القراءة ليست متأصلة، والحماس الوقتي الذي يبديه طالبو النسخ يخبو فورًا بعد حصولهم على النسخ المجانية.

يكتشف المؤلف بخيبة أمل مريرة أن القراء الذين أهداهم نسخًا مجانية من كتابه لم يقرؤوا حرفًا، ثم يعتذرون بأنهم ما وجدوا وقت فراغ للعكوف على الكتاب.

من ألطاف الله أن المؤلف اليمني الذي يمر بموقف كهذا لا يصاب بانهيار عصبي أو جلطة أو نوبة قلبية، فهو بعد أن قضى سنوات من عمره في كتابة الرواية، ثم باع ما فوقه وما تحته ليطبعها، ثم أهداها لمن يتوسم فيه أن يقرأها، فإذا به بعد هذا العذاب كله لا يلقى كلمة استحسان تُطيِّبُ خاطره، ولا مجاملة لطيفة من بضع كلمات -ولو كذبًا- تعوضه عن خسارته للوقت والمال والصحة ربما في سبيل تأليف ذاك العمل الأدبي.

في عام 2012 أقمت لفترة وجيزة في مدينة (آن آربور) الأمريكية، وهي مدينة ثانوية صغيرة تقع في ولاية ميشيغان، وأخبروني عن فعالية حفل توقيع رواية أقيمت في فرع مكتبة (Barnes & Noble) وبحسب ما أتذكر فإن د. وجدان الصائغ ذكرت لي أن الروائي باع خمسة آلاف نسخة، ثم اعتذر لبقية الجمهور لنفاد النسخ، وغادر المدينة على وجه السرعة متجهًا إلى مدن أخرى لمتابعة البرنامج الحافل الذي أعدته دار النشر لحفلات توقيع روايته.

طبعًا أدرك الفارق الحضاري والمادي الضخم بين القارئ اليمني والقارئ الأمريكي.. ولكن هذا لا يمنع أن نتأمل في العلاقة بين المؤلف الغربي وجمهوره، وهي علاقة صحية وسليمة، فالجمهور يكافئ المؤلف على جهوده التي بذلها في تأليف كتابه، ويوفر له إمكانية العيش من قلمه.

هل يوجد لدينا جمهور قارئ أصلًا؟ رأيي أنه يوجد جمهور قارئ في اليمن، ولكنه منفصل عن المشهد الأدبي والثقافي المحلي بشكل مأساوي.

* روائي وكاتب يمني.

تعليقات