Accessibility links

وجدي الأهدل*

نصحني صديق عزيز بزيارة مكتبة (أوريون) في الدقي، قال إنها تبيع كتبًا مميزة بأسعار مخفضة. لم أعثر عليها بسهولة، ثم وجدت أخيرًا لافتة صغيرة تشير إلى مكانها، كانت مستقرة في قبو أسفل عمارة سكنية. ليست مكتبة بالمعنى التجاري.. لأن المرء يشعر بحميمية المكان، فكأنه في صالون ثقافي تعبق فيه أنفاس تلك النوعية النادرة من البشر: آكلي الكتب!

العديد من العناوين الجذابة، ثم اخترت كتابًا لكاتب مجهول بالنسبة لي، لم أسمع عنه قط، أردت أن أضفي على المشوار سمة الاستكشاف من البداية وحتى النهاية، ودفعت ثمنًا متواضعًا للكتاب.

تبين أن “مكالمات تلفونية” مجموعة قصصية، قرأت القصة الأولى وعنوانها “المدعو سينسيني”، وفور انتهائي من قراءتها هتفت من يكون هذا المؤلف الملعون؟! أعدت قراءة اسمه “روبيرتو بولانيو”، وأدركت أنني عثرت على كنز.

تابعت قراءة بقية القصص، ولكن كنت أعطي نفسي استراحة قصيرة عقب الانتهاء من كل قصة، لأستوعب ما فيها من جماليات تطرب لها الروح.

هذا الرجل أعاد خلق فن القصة القصيرة من جديد، وأضفى عليه مذاقا حلوًا، إن قصصه تشبه الحلويات، وكل قصة لها طعمها الخاص الذي يثير فينا مشاعر متنوعة من اللذة الفكرية.

روبيرتو بولانيو (1950-2003) شاعر وكاتب شيلي، ألّف خلال حياته القصيرة العديد من الأعمال الأدبية ذات القيمة الأدبية العالية، منها 12 رواية و4 مجموعات قصصية، وكتب شعرية ومقالات، فهو كاتب غزير الإنتاج، ولكن أعماله لم تحقق الذيوع والانتشار والنجاح إلا بعد وفاته، فترجمت إلى أكثر من 37 لغة، وتدفقت الجوائز ومديح النقاد عليه، حتى وضعه البعض منهم في مصاف عمالقة أدب أمريكا اللاتينية أمثال خورخي لويس بورخيس وخوليو كورتاثر.

قصته القصيرة “المدعو سينسيني” تتحدث عن مراسلات بين كاتب شاب مغمور وكاتب في خريف العمر معروف في دوائر محدودة، إنه كاتب جيد، والدليل على ذلك أنه فاز بخمس عشرة جائزة في المسابقات الأدبية، ولكن الحظ لم يطرق بابه ليجعله ثريا. هو كاتب أرجنتيني منفي في إسبانيا، فقد وظيفته كأستاذ جامعي في بوينوس أيرس، وصار يعتمد كليا في منفاه على دخله الشحيح من الأدب.. من النشر في الصحف والمجلات وأحيانا الجوائز الأدبية.

القصة ذات حبكة جيدة للغاية، ومترعة بالمشاعر الإنسانية، وكاشفة لأدق خبايا حياة الأدباء خلف الكواليس البراقة.. لقد كشف بولانيو الحقيقة المؤلمة عن نفسه وعن جيله وعن كل الأدباء في كل زمان ومكان.. هي قصة تلخص حياة الأديب في عصرنا هذا وكل العصور السالفة واللاحقة.. إنه القدر الذي لا مفر منه لمن أوقعه حظه في مهنة الأدب، فهذا الأديب الذي شاخ ووافى ستين عامًا ما يزال يبحث عن المسابقات الأدبية التي تنظمها هيئات ذات نوايا طيبة -كما يقول محرجًا- مثل البلدية وهيئة خطوط السكك الحديدية، ليسدد إيجار شقته في مدريد، ويكسب ثمن حبوب الفاصوليا التي تحتاجها أسرته.

فوجئت عندما راجعت موسوعة ويكيبيديا أن قصة “سينسيني” مستمدة من وقائع حقيقية، وأن بولانيو هو الكاتب الشاب، وأما الكاتب الشيخ فهو أنطونيو دي بينيديتو الروائي الأرجنتيني الشهير، ومعظم ما جاء في القصة هي معاناة صادقة لكلا الأديبين.

وقد أهدى بولانيو هذه القصة “المدعو سينسيني” لصديقه وأستاذه بينيديتو.

أهم نصيحة تلقاها الأديب الشاب من أستاذه الشيخ هي أن يشارك في المسابقات الأدبية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لتحصين نفسه ضد الكفاف وليتمكن من المضي قدمًا في مشروعه الأدبي، وهي النصيحة التي أفادت بولانيو كثيرا، فتحسنت أحواله المادية شيئا فشيئا، وتمكن من نيل حريته وتكريس وقته لكتابة الأدب.

بعد وقوع الانقلاب الدموي في شيلي عام 1973 اعتقل أنطونيو بولانيو لمدة أسبوع وكان معرضًا للتصفية مثل سواه من اليساريين، ولكن شرطيًا كان زميله في الثانوية العامة تذكره وأنقذه بمكالمة تليفونية.. بعدها هاجر إلى إسبانيا وعمل في مهن متواضعة: غاسل صحون، خادم في فندق، نادل، جامع قمامة، مفرغ للسفن، قاطف للعنب، وأيّ عمل كان يجده ليسد جوعه.

ولم تتحسن أحواله فعليًا إلا بعد أن أخذ بنصيحة بينيديتو كما أسلفنا. بالطبع كان يمكنه أن يشارك في المسابقات الأدبية من تلقاء نفسه، ولكن تشجيع كاتبه المفضل له دفعه للإصرار على مواصلة الإنتاج بهدف اللحاق بموعد المشاركة في تلك المسابقات.. وهي حيلة نفسية ناجعة لمن كانت ظروفه المعيشية غير مواتية للتفرغ الأدبي.

قصة “هنري لويس لوبرنس” تتحدث عن أديب فرنسي من أولئك التعساء الذين لم يصادفوا أبدا النجاح الأدبي، ورغم أن لوبرنس أنقذ حياة العديد من الأدباء الفرنسيين خلال الحرب العالمية الثانية، وحظي بالتقدير لعمله البطولي في هذا الجانب، إلا أن الحظ الأدبي لم يطرق بابه لا في حياته ولا بعد مماته.. هنا يصف بولانيو بفنية عالية عينة من الأدباء الذين يمكن أن نصادفهم في أيّ مكان من العالم وفي أيّ زمان، فهذه حال الدنيا؛ أن توجد شريحة من مزاولي الآداب والفنون لا يحققون ذيوع الصيت المأمول.

يتابع بولانيو كتابة قصص قصيرة عن الشريحة الاجتماعية التي يعرفها جيدًا، وهي شريحة الأدباء، ونقرأ قصة “إنريكي مارتين” وهي عن شاعر يصاب في أواخر أعوامه بالجنون. القصة مُعبّدة بحبكة بارعة وقفلة درامية مذهلة، فهي تمثل خير تمثيل أسلوب بولانيو القصصي الذي لفت إليه أنظار القراء من سائر أرجاء العالم:

“الشاعر قادر على احتمال أي شيء، مثل القول بأن الإنسان قادر على احتمال كل شيء، ولكن ليس هذا حقيقيًا: فالأشياء التي يستطيع أن يتحملها الإنسان قليلة، تلك التي يستطيع أن يتحملها بالفعل. في المقابل يستطيع الشاعر تحمل كل شيء، وبهذه القناعة نمضي نحن الشعراء قدمًا نحو النضوج”ص59.

وفي قصة “مغامرة أدبية” يكتب بولانيو عن علاقة شائكة يشوبها الحسد بين أديب شاب متطلع إلى المجد الأدبي، وأديب أكبر سنا نال التقدير الأدبي ورمز له بالحرف (أ)، ويرمز بولانيو لنفسه بحرف (ب)، فهو الأديب الشاب في هذه القصة، وهو يعبر بشفافية ومصارحة عن المشاعر التي انتابته في شبابه أثناء مشواره الأدبي.. وكأنه بكتابة هذه القصة يعتذر عن سوء سلوكه وعن المشاعر السلبية التي حملها ضد (أ) الأديب الذي لم يُسئ إليه بل أحسن إليه، وذنبه الوحيد أنه ناجح، وهو الأمر الذي يصبو إليه (ب) باستعجال دون بذل الجهد الكافي.

في قصة “العملاء السريون” يسرد بولانيو بأسلوب رمزي حادثة اعتقاله عام 1973 عندما أطاح الانقلابيون بحكومة الرئيس المنتخب سلفادور الليندي، حينها كان عمره 20 عاما، ويساريًا ملتزمًا، وكان على وشك الوقوف أمام فصيل الإعدام، ولكن أحدهم كان يعرفه من المدرسة الثانوية فأنقذه.. لم يوضح بولانيو ما حدث، لم يتحدث عنه لوسائل الإعلام، لكنني سأرود أدناه خاتمة القصة وأترك للقارئ استنتاج ظروف نجاة بولانيو (نلاحظ أن بولانيو أشار إلى نفسه في القصة باسم بيلانو):

“بعد ذلك أمسكتُ بـ بيلانو من كتفيه وأعدته إلى صالة الرياضة. حينئذ خطر ببالي أن أجذب سلاحي وأطلق النار هناك، كان ذلك سهلا، لم يكن ينقصني إلا أن أصوب جيدا وأطلق النار على رأسه، كنت أجيد التصويب حتى في الظلام.

وبعدها كنت قادرا على أن أقدم أي تفسير. ولكنني بالطبع لم أفعل ذلك.

  • بالطبع لم تفعل ذلك. نحن لا نفعل هذه الأشياء.
  • لا، نحن لا نفعل هذه الأشياء.”ص205.

خاتمة عبقرية ذات بعد رمزي، وكأن بولانيو يدين الانقلابيين، ويقول نحن نعرف أنكم ستنكرون كل جرائمكم.

أسس روبيرتو بولانيو لتيار أدبي جديد هو (ما دون الواقعية)، مع جماعة أدبية من مجايليه، ولم يأت هذا التيار من باب العبث أو التسلية، ولكن اضطرارًا لأن جيله أراد الخروج من عباءة تيار الواقعية السحرية الذي اكتسح أمريكا اللاتينية ثم العالم بأسره، وكان بولانيو أبرز من كتب بهذا الأسلوب الأدبي الجديد.

تَرجمتْ المجموعة القصصية “مكالمات تلفونية” من الإسبانية إلى العربية د. عبير عبدالحافظ رئيس قسم اللغة الإسبانية وآدابها بجامعة القاهرة، وصدرت عن منشورات بتانة 2017 بالقاهرة.

* كاتب وروائي يمني

تعليقات