Accessibility links

عبدالله الصعفاني*

بشهادة الواقع وشكاوى أطباء النفس اليمنيين، هناك رفض مجتمعي يمني كبير لفكرة العلاج النفسي، بسبب الخلط الخاطئ بين فلان مريض نفسي، وبين فلان مجنون.. وبالنتيجة يعزف معظم الناس عن زيارة الطبيب النفسي.. ولهذا العزوف تداعياته السلبية الجديرة باهتمام الجميع..!

* ثقافة اعتبار أيّ وجع نفسي وصمة عار، سلوك خطير، وله انعكاساته بحسابات أنّ ما يمكن علاجه اليوم يصعب علاجه في المستقبل.. ويكفي لتعليق الأجراس أنه، وبحسب مصدر في مستشفى الأمل، هناك حوالي 20 ألف مريض نفسي على الأقل يجوبون الشوارع.. وما خفي من الأرقام أدهى وأعظم.

* الكثيرون منا تعبانين نفسيًا بنسب مختلفة، لكن الغالبية يرفضون مجرد اعتبار الكآبة المتطورة حالة تحتاج للمراجعة، والبحث عن معالجة بوسيلة أو بأخرى، ومنها العلاج النفسي، والعلاج بالوجبات الروحية وترك القات وممارسة الرياضة والاستعانة بالمتخصصين.

* وتلطيفًا للجو النفسي في هذه الوقفة، يكفي الإشارة إلى أن العنف اللفظي وصل حتى للأغاني والعواطف من زمن مبكر، وهو ما يثير تساؤلات على النحو الآتي:

* ما هو الدافع النفسي الذي جعل أحدهم يبدأ إحدى أغانيه بقوله:

“لا تنقدوني إن خرجت اراجم..

 على المليح الحالي الضراجم..؟

ولماذا يظهر عنف المفردات حتى في أغانٍ عاطفية يحرص كاتب كلماتها على القول “لو يضربوني بدبابه” بعد أن غنى من قبله “والله…. لو يسيل الدم” حتى زاد أحدهم من بهاراته وغنى “حرام لا اقول لأبوش يطعنش بالجنبية..”

وكيف لأغنيات أن تحتوي على أدوات تدمير في حالات عاطفية..

لماذا المراجمة.. ولماذا استخدام التعابير العنيفة في “المحاسيس.. أقصد الأحاسيس..؟

* هذه الأغاني وغيرها من المواقف الانفعالية وما لحق بها من الأوجاع النفسية الفيسبوكية حفزتني للاهتمام باليوم العالمي للصحة النفسية، والاقتراب أكثر من القضية النفسية في مجتمع يعاني من أوجاع بيلوجية وسيكلوجية، بسبب الأزمات وحروب العدوان، وغير ذلك من المعوقات الحياتية التي تعبث بالأدمغة، ونرى ثمارها القاسية في صور عدوانية عديدة، كان آخرها وليس أخيرها، الأب الذي قتل أولاده بنفس مريضة وقلب متثلج..!

* من هذا الإحساس حرصت على حضور احتفال مستشفى الأمل بيوم الصحة النفسية 10/10/2025.. وفي الحفل وددت لو أسجّل إضافة فأخطف المايكرفون من الزميل محمد الداهية مقدم احتفال المستشفى باليوم العالمي للصحة النفسية، لكنني تراجعت حتى لا أُربك مذيع الحفل وأخرج عن برنامج محدود الزمن، والمتحدثين..!

* وقضية الأوجاع النفسية التي نرفض الاعتراف بها هي أكبر من أي مشاعر أو مبالغات.. إنها تعكس حالة مجتمعية لا يستطيع مستشفى الأمل ولا غيره الوفاء بكل استحقاقات التشافي من أوجاعها.

* وأكبر مشكلة هي تنامي خصوصيتها الأعلى في اليمن، لأن أهل المريض يرون من يعاني من متاعب نفسية وصمة لا يجوز الاعتراف بها، وبالتالي لا يسارعون إلى عرض مريضهم على طبيب نفسي متخصص، وقليل ما هم..!

* والتعب النفسي يا حضرات واقع حياتي شأن التعب الجسدي، ولكن نرى كثيرون جدًا لا يتجرأون في عرض حالاتهم على طبيب نفسي، وعائلاتهم هي الأخرى لا تبادر إلى ذلك إلا بعد أن تسوء الحالة ويبدأ المريض في تشكيل خطر حقيقي عليهم وعلى المارين في أماكن تواجدهم..!

* وتتعاظم المأساة عندما يكون المريض أنثى، حيث تصل عائلتها من التمادي في الخطأ درجة إخفاء المريضة عن الحياة المجتمعية، رغم أن الإنصاف يقتضي التنويه بأن الذين أنشأوا مستشفى الأمل للأمراض النفسية والعصبية جعلوه في البداية للنساء منذ 35 عامًا..

* كلمات الحفل التي ألقاها كلٌّ من الوزير الدكتور علي عبدالكريم شيبان ومدير عام المستشفى الدكتور رياض الشامي وكبير الأطباء الدكتور عبدالسلام عشيش والمدير الطبي الدكتورة روضة القباطي أكدت أهمية إيجاد وعي مجتمعي بالحاجة للتداوي النفسي، وتحقيق الشعار المرفوع “الوصول إلى الخدمات الصحية والنفسية في الكوارث والطوارئ”.. وأنّ الصحة النفسية جزء من مكونات صحة الفرد، وأن المشاكل النفسية تحتاج إلى تعاون الجميع، لكون الأدوية النفسية أيضًا غالية الثمن، خاصة مع تراجع أو اختفاء دعم المؤسسات الدولية في الأدوية.

* على أن الأمانة تقتضي الإشارة إلى ما ذكره الأستاذ الجامعي الدكتور عبدالحافظ الخامري من أن الكلمات ركزت على الطبيب النفسي وتجاهلت الأخصائيين النفسيين.. وهي مناسبة للتذكير بخطأ توقف الدبلوم الأكلينيكي النفسي لخريجي أقسام علم النفس في الجامعات، ما يستدعي اهتمام إدارة مستشفى الأمل وإعادة النظر في هذا الخطأ، خاصة مع ورود إشارة إلى عجز هائل في عدد الأخصائيين، وأنه لا يوجد سوى ممرض واحد لكل مليون يمني.. و”يا ألطاف الله..!”

* ويرى الدكتور رياض الشامي، مدير عام المستشفى، بأن مستشفى الأمل هو عمود الخيمة في الصحة النفسية وهو الرائد، سواء في الجلسات النفسية اليومية، ومتابعة حالة المريض، وحتى الاهتمام بحصص الألعاب الرياضية البدنية والمهارات والفُسح، ومتابعات للأطباء التي تصل حد التأكد من أن المريض أخذ قرص العلاج فعلاً ولم يتخلص منه بطريقة أو أخرى.

* كلمات الاحتفال أشارت إلى أن تكاليف التعافي في مستشفى الأمل هي الأقل، وأن المريض النفسي يبدأ بالتحسن خلال ثلاثة أيام، وأن قسم النساء يتسع لأربعين حالة، وأن ثمة قسمًا للمعالجة من الإدمان، وأقسام الرجال هي الأكثر.

وجميعهم يحصلون على رعاية مستمرة، وقد يستكمل المريض علاجه في بيته.

* والأسئلة الجديرة بأن أختم بها هذه الوقفة: متى يتطور الوعي الجمعي للناس بإدراك أن أوجاع الإنسان جسدية ونفسية.. وكل وجع يؤثر في الآخر والعكس.. ولا خلاف..؟

* أما الإضافة الجديرة بالذكر، فهي أن المريض النفسي الذي يغادر المستشفى بعد العلاج، ويعود إلى مضغ القات سرعان ما تعود إليه الأعراض المرضية النفسية، وكأن شيئًا علاجيًا لم يكن.. وهو ما أكده لي استشاري نفسي وأنا اسأله حول حالة مرضية لشاب تشافى، لكن القات أعاده إلى حيث كان..!

* كاتب يمني

تعليقات