Accessibility links

وجدي الأهدل*

اليمن منذ اندلاع ثورة الشباب عام 2011 دخلت في متاهة لم تخرج منها حتى اليوم، وأيّ مؤرخ سيحاول تدوين ما جرى من حروب كارثية ونزاعات ضارية منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا (2025) سيجد صعوبة – كما أتصور – في الإلمام بجميع الخيوط التي حركت وأدارت الصراع في اليمن.. فجيلنا مثلًا لا يرى سوى قمة جبل الجليد، أي ثُمن الحقيقة، وأما الحقيقة الكاملة فهي غاطسة في بحر المجهول، وهي تشكل سبعة أثمان ما جرى فعلًا في اليمن ولليمن.

هل كان رئيس الوزراء محمد سالم باسندوة يعلم ما سيجري على رأس ثلاثين مليون يمني من بلاء؟ ألذلك كان يبكي؟ كثيرون كانوا يسخرون منه، ويرونه رجلًا ضعيفًا، وليس أهلًا للموقع القيادي الذي يشغله، ولكن الأيام أبدت ما كان خافيًا عن أنظارنا، وعلمنا لماذا كان هذا الرجل النبيل ذو الحسّ الإنساني يذرف الدموع لأجله.

صدر كتاب الأمير لمكيافيلي في طبعة جديدة عن دار عناوين بوكس بالقاهرة، وما إن سمع أحدهم بالخبر حتى صاح مستنكرًا كيف تطبع دار عناوين بوكس كتابًا سيئًا كهذا، وقال إنّ هذا ترويج لكتاب غير أخلاقي إلخ.. لقد سبق لي أن تحدثت في مقال سابق عن المثقف اليمني الحموري الذي يعرف الكتب بأذنيه، ولا يقرؤها بعينيه، فهذا الذي انتقد دار عناوين بوكس لطباعتها كتاب “الأمير” لم يقرأه، ولكن سمع عنه، وعليه راح يُحاضر ويُنَظِّر ويَعِظُ، ولا يستحي أن يدلي بدلوه وهو لم يقرأ حرفًا من كتاب “الأمير”.

الحقيقة كتاب “الأمير” أحد الكتب النفيسة القدر، فهو سِفْرٌ لا نظير له في الكتب السياسية، فهو الكتاب رقم واحد لأيّ شخص يريد اتخاذ السياسة مهنة له.

عندما قرأت “الأمير” وجدت أن الغرب يطبق أفكاره بنسبة 100%، لذلك حقق الغرب النجاح العظيم في بناء الدول والإمبراطوريات، وحقق الاستقرار والرفاهية لشعوبه.

إن نجاح الغرب السياسي تأسس على صخرة عظيمة، هذه الصخرة اسمها كتاب “الأمير”.

يجد العديد من المثقفين العرب تناقضات في مواقف الغرب السياسية.. لكن الذي يقرأ كتاب “الأمير” سوف يستوعب سر هذه التناقضات، وسيعلم أنها تمضي على نهج سياسي مدروس، ومضمون النجاح أيضًا.

في التاريخ الإسلامي هناك الدولة المثالية، وهي عصر الخلفاء الراشدين، التي ابتدأت بالخليفة أبي بكر الصديق وانتهت بالخليفة علي بن طالب، ثم تلتها الدولة السياسية على يد معاوية بن أبي سفيان، وكان هذا الرجل سياسيًا من الطراز الأول، ومكيافيليًا قبل أن يولد مكيافيلي، ولكن لغرابة الأمر، لم يولِ أيّ مؤرخ عربي – إسلامي نظرة تقدير لعبقرية معاوية السياسية، لأن المؤرخين المسلمين ظلوا مقيدين بالنظرة المثالية للحكم، والحاكم المثالي.. بينما أيّ تحليل دقيق للمرحلة التاريخية التي مرّت بها الإمبراطورية الإسلامية، أي منذ عام 40 هجرية فصاعدًا، سوف يخلص إلى نتيجة مفادها أن دخول شعوب وأمم كثيرة متعددة العقائد واللغات والأعراق سيؤدي حتمًا إلى تطور في أساليب الحكم، وتجاوز نموذج الدولة المثالية إلى نموذج الدولة السياسية.. وبدون العبقرية السياسية لمعاوية ما كان يمكن للعرب أن يؤسسوا إمبراطورية مترامية الأطراف، ويحكموا نصف العالم.

متى يتغيّر أسلوب الحكم؟ عندما تتغيّر أخلاق الناس.. فعندما تظهر النزعة المثالية قوية في السواد الأعظم من الشعب، فإنه من الممكن أن يكون نظام الحكم مثاليًا، فإذا كانت النزعة المادية هي السائدة، فإن أسلوب الحكم البراغماتي هو الحل.

كتاب “الأمير” ألفه نيكولو مكيافيلي عام 1513، وكان أشبه برسالة طويلة موجهة لأمير فلورنسا (مقاطعة إيطالية)، وافتتح مكيافيلي كتابه بهذه الجملة:

“رسالة نيكولو مكيافيلي إلى لورينزو العظيم ابن بييرو دي ميديشي”.

وهذا الأمير هو حفيد لورينزو ميديشي راعي الفنون الشهير في عصر النهضة. الجدير بالذكر أن هذا الأمير الذي ألف مكيافيلي الكتاب من أجله هو الذي استعاد السلطة لعائلة ميديشي، وأسقط الجمهورية التي كان مكيافيلي يخدم فيها، وكان الأخير يأمل أن يشفع له كتابه في العودة للخدمة في بلاط الدولة الجديدة.

وفي هذا المقطع المقتبس من “الأمير” يمكننا تكوين فكرة وافية عن الفكر المكيافيلي:

“ويجب أن يُفهم أن الأمير، وخاصة الأمير الجديد، لا يستطيع أن يراعي كل تلك الأشياء التي يعتبر الرجال من أجلها صالحين، لأنه غالبًا ما يُجبر، من أجل الحفاظ على دولته، على التصرف ضد العهد، وضد المحبة، وضد الإنسانية، وضد الدين. لذلك، من الضروري أن يكون لديه عقل مستعد للتحول حسبما تملي عليه رياح الحظ وتقلبات الأمور، وكما قلت أعلاه، ألا يحيد عن الخير إذا استطاع، ولكن أن يعرف كيف يفعل الشر إذا لزم الأمر.

لذلك، يجب على الأمير أن يحرص أشد الحرص على ألّا تخرج من شفتيه كلمة لا تكون مليئة بالصفات الخمس المذكورة أعلاه، وأن يبدو لمن يراه ويسمعه، كله رحمة، كله وفاء، كله نزاهة، كله إنسانية، وكله دين. ولا يوجد شيء أكثر ضرورة من أن يبدو المرء أنه يمتلك هذه الصفة الأخيرة (الدين)”.

ويشرح مكيافيلي أن على الحاكم أن يجمع بين صفات الأسد والثعلب، فالقوة الغاشمة وحدها لا تكفي لحكم الشعب. وأن الحاكم الذي يمزج بين صفات الأسد والثعلب في أسلوب حكمه سيحقق النجاح لا محالة.

هناك نصائح ثمينة يقدمها مكيافيلي للحاكم، منها تجنب أن يكون مكروهًا أو محتقرًا من شعبه، فأيّ واحدة منهما كفيلة بتدمير نظام حكمه عاجلًا أو آجلًا:

“ما يجعله مكروهًا، قبل كل شيء، كما قلت، هو أن يكون جشعًا ومغتصبًا لممتلكات ونساء رعاياه؛ ومن هذا يجب عليه أن يمتنع. طالما أن الغالبية العظمى من الرجال لا يُحرمون من ممتلكاتهم أو شرفهم، فإنهم يعيشون راضين، ولا يبقى للمرء سوى محاربة طموح قلة، وهو ما يمكن كبحه بسهولة وبطرق عديدة.

ما يجعله محتقرًا هو أن يُعتبر متقلبًا، تافهًا، متخنثًا، جبانًا، وغير حاسم؛ من هذه الصفات يجب على الأمير أن يحذر نفسه كما يحذر من صخرة، وأن يسعى ليُرى في أفعاله عظمة، وشجاعة، وجدية، وقوة. وفي تعاملاته الخاصة مع رعاياه، يجب أن يُظهر أن أحكامه لا رجعة فيها، وأنْ يحافظ على هذه السمعة بحيث لا يجرؤ أحد على التفكير في خداعه أو التحايل عليه. الأمير الذي يخلق هذه الصورة عن نفسه يحظى بسمعة كبيرة”.

وغير هذا كثير من النصائح الإيجابية الممتازة التي يبسطها مكيافيلي في كتابه، فالرجل على قدر عالٍ من الحكمة. وأضف إلى الحكمة الدهاء والخبرة السياسية التي اكتسبها خلال سنوات خدمته.

من العار اختزال “الأمير” لمكيافيلي في أنه كتاب نميمة سياسية منحطة، المنحط حقًا هو الذي يحكم مسبقًا قبل أن يقرأ ويستوعب جيدًا.

وأنا أقرأ “الأمير” لاحظتُ أن الرئيس السابق علي عبدالله صالح طبّق كثيرًا من أفكار مكيافيلي، ولذلك تمكن من البقاء 33 سنة في حكم اليمن، علمًا أن اليمن من الدول التي يصعب حكمها.

امتلك الرئيس إبراهيم الحمدي الذي حكم اليمن الشمالي خلال الفترة (1974 – 1977) صفات الأسد، ومنعته أنَفته أن يتحلى بصفات الثعلب، فخرج مبكرًا من قمة السلطة، فهو حاكم مثالي في توقيت خاطئ.

نمر اليوم بمرحلة تاريخية أبعد ما تكون عن المثالية السياسية، والعلاج المتاح لعودة الدولة اليمنية موجود في باطن كتاب “الأمير”، ففيه حلول عبقرية ميسورة التطبيق، فعلى من يهبه القدر حظًا للدنو من قمة السلطة أن يحتفظ بنسخة من “الأمير” في جيبه يقرأ منها في حله وترحاله، ونسخة تحت وسادته يقرأ منها قبل نومه، وأخيرًا اقتباسات يحفظها عن ظهر قلب ليسترشد بها في سياساته وتحالفاته.

* روائي وكاتب يمني.

تعليقات