Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

الشائع هو أن يقوم الأمريكي بدراسات أنثروبولوجية عن القبائل البدائية في الأمازون، والبدو الرحل في الصحارى القاحلة، وسكان الجزر النائية، وجماعات الإنويت في القطب الشمالي، وما شابه ذلك. 

لكن رواية “الطريق إلى أيدا” للروائي والناقد الأرجنتيني ريكاردو بيجليا تقلب هذا المنظور الشائع، وتضع المجتمع الأمريكي الأكثر حداثة في العالم تحت مجهر التحليل الأنثروبولوجي، وتدرسه بأدوات روائية دراسة معمقة تترك أثرًا قويًا في النفس.

خمسة عشر عامًا أمضاها ريكاردو بيجليا في الولايات المتحدة، أستاذًا لمادة أدب أمريكا اللاتينية في العديد من الجامعات الأمريكية، أتاحت له معايشة المجتمع الأمريكي عن كثب، وملاحظة أحواله ومزاجه، ورصد المسكوت عنه في مختلف الطبقات والشرائح، وقول ما لا يقال في وسائل الإعلام، فإذا بالقارئ يستنتج أمورًا غريبة لا تخطر بالبال، عن مجتمع كنا نظن أننا نعرفه حق المعرفة، لكن عين الروائي تخترق الحُجب، وترى ما لا يُرى بالعين المجردة.

تتحدث الرواية عن عالم رياضيات فائق الذكاء، حاز الجوائز والتقدير من الوسط العلمي والأكاديمي، وكان يُتوقع له أن يكرس نفسه كواحد من عباقرة الرياضيات، وأن يقدم مساهمات علمية على قدر كبير من الأهمية في تطور العلم والتكنولوجيا.. لكنه يتمرد على هذا المسار الذي يتمناه أيّ إنسان عادي، ذو تكوين نفسي طبيعي، ويقرر الانتقال إلى منطقة ريفية نائية في ولاية مونتانا المحاذية لكندا، ويشيد له هناك بيتًا، ويعيش على موارد الطبيعة لا غير، ويقطع صلته تمامًا بالحضارة.

هناك قضى عشرين عامًا في عزلة وهدوء، ومارس نشاطه السري دون أن يلفت إليه الأنظار.

ما كان نشاطه السري؟ لقد كان توم مونك قاتلًا متسلسلًا، استهدف خلال عشرين عامًا العلماء اللامعين الذين انخرطوا بقوة في تطوير الأبحاث التكنولوجية.. كان يراهم أعداءً للطبيعة، وأن عليه وقف مسار هذا التطور ولو بجهوده الفردية، وبعد القبض عليه كان يطالب المجتمع بمواصلة رسالته في استهداف العلماء وقتلهم.. بمعنى ما كان يرى نفسه نبيًا، ويطلب من أتباعه التبشير بدينه المعادي للحضارة المادية.

وفقًا لتحليل ريكاردو بيجليا، فإن الحياة في بلد متطور جدًا كالولايات المتحدة الأمريكية، قد تُحدث عند الإنسان ردة فعل عكسية، فيرغب في العودة إلى أحضان الطبيعة، وعيش حياة بسيطة متواضعة، تتميز بالنقاء وراحة البال والسلام الداخلي.

هناك مرض تسببه الحياة العصرية، علة تنخر عميقًا في الروح، وهذا ما سلط عليه ريكاردو بيجليا الضوء في عمله الفذ “الطريق إلى أيدا” بجلاء وفطنة:

“وباء منتشر في البلاد، الذهاب إلى الحدود، البحث عن أودية خالية وسلام. أبناء بلدي ينقسمون إلى من يشيدون المدن بحماس شديد، يصنعون سيارات ويمهدون آلاف الأميال، ومن يذهبون إلى البراري ويعيشون في اتصال مع الطبيعة. بينهم ستكون المعركة النهائية التي بدأت كحرب بين الهنود الحمر الذين يعيشون على الجبال وأصحاب الوجوه الشاحبة القادمين من المدن. بعد ذلك كانت تعاونيات الهيبيز، ثم أنصار البيئة هم من ابتعدوا عن الحضارة وعاشوا منعزلين. أبناء الطبيعة الغاضبين هؤلاء كانوا يعتبرون أن حيواتهم منقوصة ومشوهة وأن خبراتهم الاجتماعية مرعبة، وكانوا مقتنعين أن ثقافة جديدة يمكنها أن تولد في العزلة ورفض التجمعات المدينية” ص183-184.

استخدم ريكاردو بيجليا ضمير المتكلم في سرد روايته، يتطابق اسم الراوي في الرواية “إيمليو رنزي” مع الاسم الثاني للمؤلف ولقبه، ما يوحي بأنها سيرة ذاتية، وهذا الإيحاء كان مقصودًا لمزيد من التمويه، وإخفاء المقاصد الحقيقية للرواية عن العيون المترصدة.. لكن بعد الانتهاء من قراءة الرواية نعلم أنها عمل خيالي، وليست سيرة ذاتية لمؤلفها. أضف إلى ذلك فإن تسمية الراوي في الرواية باسم الروائي حيلة فنية ناجعة، لإضفاء المزيد من المصداقية على أحداث الرواية، وجلب ثقة القارئ من دون إثارة أيّ شكوك.

هل توجد شكوك في نوايا ريكاردو بيجليا؟ نعم هناك شكوك تلوح كشقوق خفية في جدران الرواية المبنية بمهارة معلم خبير في البناء الروائي.. لكن هذه الشقوق مصنوعة عمدًا، وليست عن قلة خبرة، أراد أن يتلصص القارئ من خلالها على أسرار المجتمع الأمريكي، ويرى المحرمات.

اللافت للنظر أن أفضل أصدقاء الراوي لم يكن من زملائه الأكاديميين، ولا من طلابه، وإنما متشرد اسمه أوريون، كان يتبادل معه الأحاديث، ويأخذ معه راحته دون تكلف، ودون أن يقصد كان يحسده على أسلوبه في الحياة!

من وجهة نظر ريكاردو بيجليا فإن أوريون لم يكن سلبيًا، لكنه اتخذ الخيار الصحيح لإنقاذ روحه من توحش الرأسمالية في بلاده.

خلف الرواية رواية أخرى تتخفى بين السطور، وكالعادة يمكن لكل قارئ أن يخرج بتأويل مختلف، وكل تأويل يمكن أن يستند إلى إشارات مرجعية في الرواية، ولكن يبدو المعنى الذي أراده ريكاردو بيجليا متعدد الجوانب، وموغلًا في التخفي لكيلا يثير حفيظة أحد.. التأويل الذي أميل إليه يدل على دهاء الروائي في قول ما يريد دون أن يحاسبه أحد على أقواله:

“من عرفوه كانوا مفاجئين ومنزعجين، وبعضهم كان لا يصدق إمكانية أن يكون نفس الرجل المسالم الذي عرفوه قد تحول إلى إرهابي وقاتل”ص201.

في هذا الشاهد يتحدث الروائي عن شخصية القاتل المتسلسل توماس مونك، العبقري الذي أنقلب فجأة من عالم رياضيات يفترض أن يساهم في تقدم العلم، إلى مجرم كل هدفه في الحياة إعاقة التقدم العلمي والتقني.

ولدينا شواهد ماكرة في الرواية تكشف جوانب الخلل في شخصية توماس مونك، رغم أنه كشخص يمتاز بسجايا أخلاقية رفيعة.. ألا يذكرنا توماس مونك بشيء ما؟ ألا يبدو رمزًا لجانب معين من الإدارة الأمريكية التي تملك وجوهًا عديدة وأحيانًا متناقضة، على غرار توماس مونك؟! يدس ريكاردو بيجليا -الذي هو أرجنتيني ويعرف جيدًا التدخلات الأمريكية في بلاده وقارة أمريكا الجنوبية – نقده للسياسة الأمريكية الخارجية، بالتوازي مع شخصية توماس مونك.

قد يبدو هذا التأويل بعيدًا وغير صحيح، إلا أنه أحد الاحتمالات التي أرجحها من خلال السياق العام للرواية.

يبرع ريكاردو بيجليا في استخدام تقنية دمج قصتين في قصة واحدة، وهو المبدأ الذي أوحى به في مقالاته النقدية، وسار عليه في هذه الرواية، إذ تتكون “الطريق إلى أيدا” من قصتين متمايزتين: قصة الراوي إيمليو رينزي بروفسور أرجنتيني يذهب للتدريس في الجامعات الأمريكية، وقصة القاتل المتسلسل مرسل القنابل المتفجرة توماس مونك.

ربما نلاحظ شيئًا من الوهن في الربط بين القصتين، ولكن هذا لا يقلل في تقديري من الأثر الفني المنعش الذي تجلبه الرواية إلى عقل وقلب القارئ.

ترجم الرواية إلى العربية عبدالسلام باشا، وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات