وجدي الأهدل*
رواية “رماية ليلية” للروائي اليمني أحمد زين يحق لنا الإشارة إليها بوصفها أكثر الروايات اليمنية تطورًا من الناحية الفنية، حتى لحظة كتابة هذه السطور.
ربما تصدر خلال هذا العام أو الأعوام القادمة رواية يمنية جديدة تزيحها عن المكانة التي وصلت إليها، مكتوبة بقلم هذا الروائي أو تلك، أو حتى بقلم الروائي نفسه، لكن تقييمي الفني أنها الأعلى من حيث التكنيك السردي والبراعة في توظيف الأدوات الفنية الأكثر حداثة.
أحمد زين ليس وجهًا غريبًا عن أدب الحداثة، بل هو رائد من رواد أدب الحداثة السردية في اليمن، فإذا كان الشاعر عبدالعزيز المقالح ومعه كوكبة لامعة من الشعراء يشكلون موجة الحداثة الشعرية في اليمن، فإن أحمد زين هو رائد موجة الحداثة السردية في اليمن، بقصصه القصيرة التي ميزت حضوره في تسعينيات القرن الماضي، ثم بأعماله الروائية التي شقت طريقًا عريضًا للسرد الحداثي اليمني في القرن الحالي.
لا يوجد أبطال بالمعنى المتعارف عليه في رواية “رماية ليلية”، ولكن هناك شخصيات عددها لا يزيد عن ثلاث، يتمحور حولها السرد، وشخصيتين مركزيتين ينهض على كتفيهما مسارين متمايزين في البناء الروائي، مع تناوب خلّاق في ضمائر السرد، من ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم فإلى ضمير الغائب، وأضفى هذا التنويع في ضمائر السرد حيوية مدهشة على النص الروائي، وجعله ينبض بمستويات متعددة من المشاعر والأحاسيس، وتقديم موضوع الحرب اليمنية من زوايا نظر متباينة أشد التباين، فهذه المهارة التقنية العالية التي أجادها أحمد زين مكنته من سبر الجرح النفسي الذي سببته الحرب في نفوس اليمنيين بمختلف شرائحهم وانتماءاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، وتوصل إلى أعماق الأزمة النفسية بصورة لم يسبقه إليه أحد من قبله، فسلط الضوء على شيخ القبيلة الذي كانت له سطوته في العهد السابق وقدرته على تحدي القرارات الرئاسية وإبطالها، وكيف انحدر به المقام بعد قيام الحرب إلى مجرد منفيٍ ذليل يتجنب الاحتكاك بالناس ليحفظ ما تبقى من أشلاء كرامته. وكذلك الثوري (نادر) الذي صعد نجمه أيام ثورة التغيير، وركب الموجة والتحق بالمسؤولين الهاربين، ثم صار وزيرًا في حكومة المنفى، فلما تم الاستغناء عنه أفل نجمه كأن لم يكن، فإذا هو نموذج لطيف واسع من أولئك الطفيليين المقيمين في الفنادق الذين استغلوا الوضع لتكوين ثروات شخصية ولتذهب البلد إلى الجحيم:
“مثل قادة برهنوا على عجز كامل عن التقدم حتى لخمسمئة متر في أرض المعركة، إلا أنهم استطاعوا الطيران آلاف الأميال، ليستقروا في أكثر من عاصمة، وعرض أنفسهم رجالًا للمرحلة المقبلة” صـ158-159.
لقد امتلك أحمد زين الشجاعة التامة والدهاء الروائي لشرح السبب الحقيقي للبلاء الذي تعاني منه اليمن منذ دهور: الضمائر الفاسدة.
إذا أردنا أن نعرف لماذا طالت الحرب اليمنية أكثر من عشر سنوات، فإن رواية “رماية ليلية” تقدم الجواب الشافي – وفقًا للمنطق الروائي – مفصلًا تفصيلًا دقيقًا في قرابة 270 صفحة، وفيها تشريح مؤلم ومقزز أيضًا لجثة السياسي اليمني الذي استمرأ حياة الترف والبذخ في الفنادق الفخمة ونسي مأساة شعبه، بل وعمد إلى المماطلة في حسم الحرب ليضمن بقاءه في منصبه وملء رصيده البنكي بالرواتب المجزية:
“وخطر لها كم أن الحاجة تخنقهم جميعًا إلى دور يلعبونه مقابل أجر ليس بالضرورة باهظًا، في ما يشبه مسرحية سخيفة، طالت أكثر مما ينبغي، ولا يفتأ الممثلون فيها يقدمون الفصل تلو الفصل، من دون أن تلوح النهاية”صـ69.
عنوان الرواية نفسه “رماية ليلية” مستمد من واقعة لا ندري أهي من خيال المؤلف أم أنها حدثت بالفعل، ولكن ما يهم هنا هو مدلولها الرمزي.. عندما اقترح أحدهم تدريبات رماية ليلية لرفع الجاهزية القتالية، وطُلب من الجنود إطلاق النار، لكن الأهداف لم تكن ثابتة، بل كانت تتحرك وتطلق صوبهم النار.. وسقط العديد من الجنود قتلى، لقد كانوا يطلقون النار على بعضهم بعضًا!
أعتقد أن عنوان الرواية والموقف الذي ذكرناه آنفًا يمكن أن نعده التقييم النهائي للحرب الجارية في اليمن.
لا يلجأ أحمد زين إلى آلية التشويق التقليدية للإمساك بالقارئ حتى آخر سطر من الرواية.. التشويق لديه ينهض على تقنية إخفاء المعلومات وتوزيعها بمهارة على مختلف مساحات الرواية، بل تظل أحمال من المعلومات في الظل حتى بعد انتهائنا من قراءة الرواية، على القارئ أن يستنبطها متبعًا تأملاته وتحليلاته الخاصة، بما يجعل الرواية حية وممتدة في عقل القارئ ووجدانه.
كذلك تقنية الحبكة لا وجود لها بالمعنى المدرسي المتعارف عليه في رواية “رماية ليلية”، لأن تيار الرواية الحداثية لم يعد يتقبل حبكات فيكتور هوغو ودوستويفسكي وتشارلز ديكنز وسواهم من روائيي القرن التاسع عشر، لكن الحبكة تظل سارية المفعول في الرواية الحداثية من وجه آخر، فالحبكة في الرواية الكلاسيكية مصنوعة بواسطة الحدث الخارجي، وأما الرواية الحداثية فإن الحبكة مصنوعة بواسطة الحدث الداخلي.. أيّ أن تطور الحالة النفسية هي مرادف لتطور الحكاية في الأدب التقليدي.
وهذه الحبكة الداخلية ملحوظة بقوة في الإحاطة العصبية والنفسية والعقلية التي تقدمها رواية “رماية ليلية” عن عدد من الشخصيات.
صدرت رواية “رماية ليلية” عن دار المتوسط بإيطاليا عام 2025، وهي روايته السادسة، وسبقتها خمس روايات هي: “تصحيح وضع، قهوة أمريكية، حرب تحت الجلد، ستيمر بوينت، فاكهة للغربان”، ومجموعة قصصية عنوانها “أسلاك تصطخب”، ونصوص عنوانها “كمن يهش ظلاً”.
ينتمي أحمد زين إلى سلالة كُتاب تيار الوعي، أمثال وليم فوكنر وفرجينيا وولف وجيمس جويس والروائي المصري إدوار الخراط، وهو يستفيد من التقنيات الجديدة التي أثروا بها الأدب الروائي المعاصر، مع فرادة في المعجم اللغوي الذي يستخدمه، والقارئ الذواقة للأدب الرفيع يمكنه أن يتعرف على نصوص أحمد زين من خلال الأداء اللغوي الذي طوره على مهلٍ فصار بصمة تميزه عن سائر الروائيين.
* روائي وكاتب يمني


تعليقات