وجدي الأهدل*
يقال إن الحكيم الصيني جيانغ زيا (القرن الحادي عشر قبل الميلاد) كان يُدلي صنارته في النهر بلا خطاف، كل الذين رأوه أخبروه أنه بهذه الطريقة لن يصطاد شيئا، فكان يرد عليهم “أنا لا أصطاد السمك، أنا أصطاد الملوك”، بالطبع ظنوه مجنونًا، لكن لاحقًا تحققت نبوءته واصطاد ملكًا وذاعت أنباء نبوغه، وترك لنا واحدًا من أعظم الكتب الكلاسيكية في فن الاستراتيجية والحرب عنوانه “التعاليم الست السرية”.
لقد رأى حلمًا، وقد صدّق حلمه، وأيقن أنه سيصل إلى هدفه ولو سخر منه الناس.
وصلت أخبار هذا الصيَّاد إلى مسامع حاكم مقاطعة صغيرة اسمه (جي تشانغ)، وأدرك أن ثمة حكمة عميقة خلف سلوكه، فذهب إليه وانبهر بمعرفته الهائلة في شئون الحكم والسياسة والاستراتيجية، ونصبَّه مستشارًا في بلاطه، وساهم جيانغ زيا بشكل حاسم في صعود سلالة (تشو) التي أصبحت واحدة من أقوى وأطول السلالات الحاكمة في تاريخ الصين.
نُشبه نحن أرباب الكلمة الحكيم جيانغ زيا، فأقلامنا هي صنانير بلا خطاطيف، ومع ذلك يمكنها اصطياد ما لا يُقدَّر بثمن من نهر الحياة.
الأحلام جذر الأصالة بالنسبة للمبدع، الحلم هو سبيكة إبداع ذهبية لا تشوبها شائبة.
ثمة من يكتب مُتَّكلًا على العقل الواعي، لكن هذا العقل الذي نثق به قد يمكر بنا، فتتسرب إلينا ونحن نكتب -دون أن ننتبه- تخيلات هي رجع صدى لكتبٍ قرأناها أو أعمال سينمائية شاهدناها.. وحين نترك الأوراق لتبرد، نُفاجأ أن المكتوب يحمل ذكرى أعمال من سبقونا.. قد نُباغتُ أحيانًا لشدة التقارب، وينتابنا الإحباط لأن وهم أصالتنا قد تبدد.
أظن أن هذه معضلة شائعة يعرفها معظم المشتغلين بالإبداع. والمخرج من شراكها هو البحث عن الينابيع الخفية للحكايات والقصص.
الأحلام هي بوابة من أبواب الإبداع الأصيل، بشرط أن تُوظف بأسلوب أدبي رفيع، وأن تصب الكتابة في المضمون العام للحلم ذاته، فكأن الكتابة تأويل ثانٍ للمعاني المستترة في الحلم.
السيدة المصرية هاجر، زوجة النبي إبراهيم الثانية وأم ولده إسماعيل، رأيتها في المنام في أقاصي الشمال البارد، دونت الحلم، وبعد حين كتبت قصة “المنفية” التي أحسبها من أفضل قصصي القصيرة.
تتحدث قصة “المنفية” عن مجتمع الفقمات في غرينلاند، وقرار سيد القطيع بنفي فقمة شابة إلى منطقة نائية في القطب الشمالي.
إن حادثة تشريد هاجر إلى المنفى تتكرر منذ الأزمنة القديمة إلى الأزمنة الحديثة، والذي يحدث اليوم لشعوب المنطقة خير شاهد على ذلك.
رأيت في المنام صديقي (م) وصديقتي (أ) أنني في بيتهما على مائدة العشاء، كنا نأكل والأطفال يلعبون. استغربتُ لماذا رأيتهما على تلك الحال وهما ليسا مرتبطين.. كتبت قصة عنوانها “فرصة تعارف” فكرتها أن يقوم طفل لم يولد بعد بترتيب لقاء تعارف على سطح القمر بين والديه المستقبليين. ونشرت القصة في مجموعتي القصصية “صورة البطَّال” عام 1998. المفاجأة الجميلة أنهما بعد أعوام تزوجا فعلًا وأنجبا، وبالرغم من أن كلاهما قد قرأ القصة، فإنني لم أخبرهما البتة بأنهما المقصودان.
في بداياتي الأدبية رأيتُ عدة أحلام تشبه أفلامًا سينمائية وصوت الراوي كان هو نفسه يتكرر في كل حلم: الروائي الإنكليزي (تشارلز ديكنز)، ولا أعرف حتى اليوم لماذا هو بالذات دون سواه الذي تحامل على نفسه ليتصدق على كويتب متواضع القيمة ببضع قصص!
(غونتر غراس) الروائي الألماني الحائز على جائزة نوبل في الأدب، حلمتُ أنني أنادمه في حديث طويل عن قصة تخص حيوانًا معينًا، كان يشرب بنت الكرم من كأس أمامه حتى فرغ، تساءلتُ في نفسي ممتعضًا لماذا لم يضعوا أمامي كأسًا مماثلًا.. بعدها بفترة وجيزة وافاه الأجل. التأويل واضح ولا يحتاج إلى شرح، وأما القصة التي حكاها فإنني أعمل عليها كوصية يَجْمُل الوفاء بها.
قمت باستلهام الملامح الخارجية واللمحات الداخلية للفيلسوف مشعل الحجازي بطل رواية فيلسوف الكرنتينة (2007) من شخصية حقيقية تربطني بها علاقة صداقة وإعجاب، هو الأديب (زين السقاف) الذي يعد واحداً من كبار المثقفين اليمنيين وشاعراً مرهفاً وقاصاً مبدعاً له مجموعة قصصية (العم مسفر) تعد من عيون الأدب القصصي في اليمن. ولما عقدت العزم على كتابة الرواية، غادرت صنعاء، وأقمت في دمشق ثلاثة أشهر، في غرفة صغيرة بفندق متواضع، ورحتُ أعمل بسلاسة واضعاً نفسي في عزلة مُختارة. وطوال هذه الفترة لم أكن أحمل هاتفاً، ولا اتصلت بأحد، ولم أقترب من الانترنت، فانقطعت عن العالم الخارجي ومؤثراته، واستغرقت تماماً في جو العمل. في إحدى الليالي رأيت في المنام صديقي الجميل (زين السقاف) مبتهجاً بلقائي، وراح يناقشني في تفاصيل تتعلق بالرواية. أتذكر أنني شعرت بشيء من الحرج لأنه اكتشف وجوده في روايتي، وأن ملامح بطل الرواية تنطبق عليه. عندما استيقظت في الصباح تذكرت الحلم وبدا لي غريباً، وتساءلت من الذي كان يناقشني: هل هو صديقي زين السقاف الذي أعرفه أم هو الفيلسوف مشعل الحجازي الذي أكتبه وقد أتى متنكراً في هيئة صديقي؟ من النادر جداً أن أرى أصدقائي في الأحلام، ولذلك ظننت وقتها أن رؤية (زين السقاف) في المنام مردها انشغالي باستحضار شخصيته أثناء كتابتي اليومية وعملي المتواصل على رواية “فيلسوف الكرنتينة”. لكن تبين فيما بعد، عند عودتي إلى اليمن، أن هذا الصديق الذي تفوق إنسانيته كل وصف قد وافته المنية بسلام وهو نائم بعد منتصف الليل. وعندما تحريت عن موعد مفارقته هذا العالم، دهشت أنه قد مات في اليوم ذاته والساعة نفسها التي رأيت فيها ذاك الحلم الموحي الذي لا يُنسى. أدركتُ أن روحه الطيبة التي فارقت للتو علبة الجسد في مكان بعيد قد أتت للمساعدة دون تأخير. أتذكر أنه بدا أصغر سناً، ووجهه هادئاً وجليلاً.
من الأحلام التي أثَّرت فيّ: رأيت أنني أتجول في الشوارع وأبحث عن شيء ما، لكنني في جسد صديقي (..) أطال الله عمره، وكنت أتصرف على هذا الأساس، وكأنني هو ولست أنا. صادفتُ حواجز ودخلت في متاهات، وكان لديّ هدف أريد الوصول إليه.. لاحقًا كتبتُ رواية “السماء تدخن السجائر”(2023)، وكان صديقي هذا هو الذي تقمصت شخصيته وأسقطتها على شخصية “ظافر” بطل الرواية، لقد أنقذني وأنقذ العمل، فبدونه ما كان بإمكاني الوصول إلى الصفحة الأخيرة.
احتفظ بدفتر أدون فيه أحلامي، وأعتقد أن كثيرًا من المبدعين يفعلون ذلك، وأرجع إليها من وقت لآخر، وبعض هذه الأحلام تشق طريقها إلى أوراقي وتتطور إلى نصوص إبداعية.
* روائي وكاتب يمني
 
                        

 
 
 
 
 
تعليقات