Accessibility links

إعلان

جيمس زغبي*

في يوم الاثنين 27 مايو الماضي، بدا أن إسرائيل «تعتذر» عن مقتل 45 فلسطينيًا نتيجة غارتها الجوية على «المنطقة الإنسانية» في رفح. وبكل المقاييس، كان ذلك اعتذارًا زائفًا. وبما أن الاعتذارات الإسرائيلية، حتى تلك المنافقة منها، نادرة، فإن الأمر يستحق دراسة الخلفية التي أدت إلى هذا الاعتذار. لقد حدث هذا القصف الأخير لرفح بعد يومين فقط من أمر محكمة العدل الدولية إسرائيل بوقف هجومها على رفح مستشهدة بالمخاطر التي يشكلها هذا الهجوم على حياة المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية. وقبل بضعة أيام فقط، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية عن نيته طلب إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب أثناء الهجوم على غزة.

ومما زاد من الحرج الذي خلقه كل هذا لإسرائيل، قرارات مشتركة اتخذتها ثلاث دول في الاتحاد الأوروبي، إسبانيا وأيرلندا والنرويج، للاعتراف بدولة فلسطين، المصحوبة بتصريحات تدعم طلب مذكرة المحكمة الجنائية الدولية الصادرة عن فرنسا وألمانيا. كما أصدرت العديد من هذه الدول الأوروبية نفسها إدانات سريعة وحازمة لهجوم رفح. وكما كان متوقعًا، كان الرد الإسرائيلي الأولي على هذه التطورات فوريًا ومفرطًا، إذ تم وصف محكمة العدل الدولية بأنها «فضيحة أخلاقية». وندد المعلقون الإسرائيليون بالمحكمة بعبارات عنصرية، مشيرين إلى نسبة القضاة الذين يأتون من دول ذات أغلبية مسلمة أو دول «العالم الثالث».

وتمت مقارنة دول الاتحاد الأوروبي التي اعترفت بفلسطين بالنازيين، ووُصف عملهم بأنه معادٍ للسامية. حتى الآن، جاء أكبر سيل من اللغة المسيئة، من كل من الحكومة والمعارضة، وذلك ردًا على طلب المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال. وأشار وزير العدل «ياريف ليفين» إلى طلب المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية باعتباره «أحد أكبر الفضائح الأخلاقية في تاريخ البشرية». ومن جانبه، قال رئيس الوزراء نتنياهو، في عرض كلاسيكي للنرجسية، إن التهم الموجهة إليه «موجهة ضد إسرائيل بأكملها». وعلى هذا النحو، خلص إلى أنها «مثال على معاداة السامية الجديدة». ولتوسيع هذا الانحراف أكثر، سأل: «بأي وقاحة تجرؤ على مقارنة حماس بجنود جيش الدفاع الإسرائيلي الذين يخوضون حرباً عادلة لا مثيل لها بأخلاق لا مثيل لها؟» وحتى أعداء نتنياهو شاركوا في الأمر، حيث وصف «بيني جانتس» طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بأنه «جريمة ذات أبعاد تاريخية»، ووصفه «يائير لابيد» بأنه «لا يُغتفر» و«فشل سياسي رهيب». هذا الاستخدام المفرط للغة، وهو شكل من أشكال التنمر، هو الطريقة التقليدية التي ترد بها إسرائيل على الانتقادات. إنها محاولة لإجبار منتقديها لفظيا على الخضوع بينما تدعم مؤيديها. وكان هذا الرد الشفهي. ولكن بعد ذلك جاء القرار بقصف رفح. ربما كان هذا الهجوم محاولة إسرائيلية لإظهار أن الرأي العام العالمي أو النقد لن يردعهم.

ولأي سبب كان، أعقب الإعلان الإسرائيلي عن القصف بيان رسمي يصف الهجوم بأنه استخدم «ذخائر دقيقة مبنية على معلومات استخباراتية دقيقة». ويشير تحليل اللغة المستخدمة هنا إلى أن الإسرائيليين كانوا على دراية بالتداعيات المحتملة لهجومهم وكانوا يختبرون مدى تسامح منتقديهم، في حين يبدو الأمر وكأنهم على الأقل يحاولون الامتثال للقانون الدولي والرضوخ لمخاوف الولايات المتحدة بأنه يجب تجنب وقوع خسائر في صفوف المدنيين. وكما نعلم الآن، لم يكن القصف الأولي دقيقاً، حيث تم الإبلاغ عن مقتل 22 شخصًا. وأدى الانفجار بعد ذلك إلى إشعال حرائق اجتاحت المنطقة المجاورة لموقع الانفجار وارتفع عدد القتلى إلى 45 حسب آخر إحصاء. وفي مواجهة موجة الغضب الدولي المتزايدة، اتبع الإسرائيليون ممارساتهم المعتادة المتمثلة في «الإنكار والتعتيم»، ثم أدانوا أهدافهم من عناصر «حماس» لأنهم «يختبئون» بين المدنيين. وبعد التظاهر بالبراءة من خلال التساؤل عن كيفية معرفتهم أن حريقًا سيشتعل في منطقة خيام مزدحمة مما يؤدي إلى خسائر في الأرواح الأبرياء، أضافوا عنصرًا يثير الارتباك، حيث أشاروا إلى أن القصف كان دقيقًا، ولكن ربما يكون الحريق قد حدث بعد أن أدى انفجار القنبلة إلى إشعال مخبأ أسلحة قريب لـ«حماس».

ولم يتم تقديم أي دليل يثبت هذا الادعاء، لأنه مع هذا القدر من التشويش، شعر الإسرائيليون أنهم ألقوا ظلالاً من الشك على مسؤوليتهم وألقوا باللوم إلى «حماس». وعندما لم تنجح أي من هذه الجهود في تهدئة الغضب الدولي، قرر الإسرائيليون أن يفعلوا أمراً نادراً ما يفعلونه: «الاعتذار». ربما رأوا أن الرأي العام العالمي ينقلب ضدهم، مع صدور أوامر اعتقال في الطريق ضد رئيس الوزراء ووزير الدفاع. وعلى الرغم من التلاعب اللفظي الذي تمارسه إدارة بايدن في ترددها في إدانة تجاوزهم للخط الأحمر الذي يتحرك باستمرار، فإنهم يعرفون مدى خطورة هذا الموقف في الولايات المتحدة. ومع أمل نتنياهو في التحدث أمام الكونجرس ومواجهة مقاطعة «الديمقراطيين» لتصريحاته، كان لا بد من اتخاذ بعض الإجراءات. لذلك اتخذ القرار بالاعتذار.

ويا له من اعتذار زائف. ففي حديثه أمام الكنيست، أعلن نتنياهو: «على الرغم من جهودنا لعدم ضربهم، فقد وقع حادث مأساوي. نحن نحقق في الحادث». ثم أضاف إهانة إلى الجرح، وتابع قائلاً: «بالنسبة لنا، إنها مأساة، بالنسبة لحماس فهي استراتيجية». وقامت إسرائيل بعد بضعة أيام بقصف مخيم آخر مكتظ للاجئين في رفح، مما أسفر عن مقتل 21 فلسطينياً. وكأنها تعطي الضوء الأخضر لمزيد من مثل هذه الهجمات، على الرغم من الإدانة العالمية والمحلية المتزايدة لعمليات القتل الجماعي هذه، أعلنت إدارة بايدن أن الولايات المتحدة لن تتخذ أي إجراء ضد إسرائيل لأنها مقتنعة بأن إسرائيل تتخذ الاحتياطات اللازمة لتجنب مقتل مدنيين وأنها تحقق في عواقب أفعالهم في رفح. إن نتنياهو يخاطب جمهوراً يضم شخصاً واحداً، لذلك كان ذلك كافياً لاستمرار التفجيرات.

* رئيس المعهد العربي الأميركي – واشنطن

   
 
إعلان

تعليقات