وجدي الأهدل*
عام 115 ق.م انهار سد مأرب العظيم، وبسبب شحة المياه اضطرت القبائل اليمنية التي كانت تعتمد على مياه السد إلى مغادرة مواطنها، والهجرة إلى الشام والعراق ونجد والحجاز.
وهي هجرات بشرية ضخمة، سجلها المؤرخون القدامى، وعددوا أسماء القبائل التي نزحت والمواطن الجديدة التي استوطنوها.
لقد تسبب انهيار سد مأرب في القضاء التام على الحضارة السبئية، فلم تقم لها قائمة بعد ذلك الحدث الكارثي. وأمست مدينة مأرب ذات الصيت والعمران المشيد أثرًا بعد عين، وأطلالًا تذكر بالماضي التليد.
نحن بعد مرور قرابة ألفي عام وزيادة، نمرّ بظرف مشابه:
سبعة ملايين نسمة في محافظة تعز يعانون من شحة المياه، وفي المحافظات الأخرى مثل صنعاء والمدن الواقعة في المرتفعات الجبلية يتجرع السكان غلاء المياه، ومؤشر غلاء المياه في صعود تدريجي لا يتوقف.. نحن أمام الاختبار نفسه؛ المياه الجوفية تكاد تنفد، وتحلية مياه البحر وضخها إلى ارتفاعات شاهقة تتجاوز الألفي متر يضاعف من كلفتها التي هي أصلًا مُكلفة وباهظة الثمن، ولا يقدر المواطن اليمني المتواضع الدخل على دفع فواتيرها، وكذلك لن توجد في المستقبل المنظور دولة قادرة على تحمل الأكلاف العالية لتحلية مياه البحر، وضخها إلى المدن الجبلية بأسعار مدعومة أقل من سعر التكلفة.
لقد نجحت تحلية مياه البحر في دول الخليج بسبب الوفرة المادية، ولأن مدن الخليج يقع معظمها على شواطئ البحار.
الإفراط في سقي المزروعات من الآبار الجوفية، والاستهلاك المدني المتعاظم لخزانات المياه الجوفية في قيعان صنعاء وعمران وصعدة وذمار سيؤدي بنا إلى نهاية غير سارة، فهذه المخزونات التي تجمعت عبر ملايين السنين، يتم استغلالها دون تبصر في تغطية حاجة سكان المدن، وخلال سنوات ستصبح فارغة، ولن تجد هذه المدن المعلقة في الجبال مصادر جديدة للمياه.
هذه الأزمة حذرت منها منظمات دولية كثيرة، وأشار إليها خبراء أجانب في دراساتهم تؤكد أن ندرة المياه في المرتفعات الجبلية وشيك، وأن تغذية المخزونات الجوفية من مياه الأمطار لن تعوض الفاقد المسحوب، لأن هناك تضخمًا في عدد سكان المدن الجبلية، وتزايدًا للهجرة من الأرياف إلى المدن الحضرية يسير بوتيرة تصاعدية.
وخلال بضع سنين ستواجه العاصمة صنعاء المشكلة المؤجلة، وستنفد المياه الجوفية في قاع صنعاء، وسيضطر السكان إلى جلب المياه من الآبار البعيدة الواقعة في الريف المحيط بالمدينة، وبكلفة أعلى، وهكذا تستفحل المشكلة دون حل جذري.
في حال خرجت اليمن من الانقسام وانتهت الحرب، فإن الحل المقترح لمواجهة أزمة شحة المياه في المدن الجبلية هو التخطيط لانتشار ديموغرافي جديد للسكان، وأن تقود الدولة بمواردها الذاتية وبمعاونة من الدول التي لها مع بلادنا مصالح مشتركة، إنشاء مدن جديدة ساحلية، مستفيدة من سواحلنا المطلة على البحرين الأحمر والعربي، وجعلها جاذبة للسكان، عن طريق توفير البنية التحتية، كالماء والكهرباء والصرف الصحي، إضافة إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، وتوفير فرص عمل عن طريق منح المستثمرين ورجال الأعمال التسهيلات الضريبية والإدارية المشجعة.
المدن الساحلية يسهل توفير المياه العذبة لها عن طريق تحلية مياه البحر، والمدن الساحلية المفتوحة على بحار العالم تقل كلفة نقل احتياجاتها من مواد البناء والبضائع إلى السعر الأدنى، بينما ترتفع كلفة نقل هذه المواد إلى المدن الداخلية في المرتفعات الجبلية إلى ضعف سعرها أحيانًا. وكمثال يمكن أن نحسب سعر طن الحديد المستورد من الخارج إلى مدينة الحديدة، وكم يكلف نقل هذا الطن من الحديد إلى مدينة صنعاء وما شابهها من المدن الجبلية، وغالبًا سنجد أن طن الحديد قد تضاعف سعره بسبب كلفة النقل.
يمكن للدولة أن تؤسس ما بين عشر إلى عشرين مدينة جديدة في النطاق الساحلي الممتد من المهرة شرقًا إلى تهامة غربًا، وهو شريط ساحلي غني بالثروات السمكية والبحرية، يمكنه أن يمد السكان بحاجتهم من الغذاء الرخيص المتوفر من أمام سواحلهم، ويمكن للموانئ المفتوحة أن تزودهم باحتياجاتهم من مواد البناء كالأخشاب والحديد والتمديدات الكهربائية والصحية بأسعار في حدها الأدنى، والحال كذلك بشأن سائر البضائع الاستهلاكية، وفي الاتجاه الآخر إذا شيدت المصانع، فإن كلفة المواد المصنعة ستكون أقل، ولن تضاف كلفة النقل، فيتم تصدير المنتجات الصناعية من المصنع إلى الميناء في دقائق.
تحتاج المصانع إلى كميات وفيرة من المياه، فإذا كانت مستقرة في الجبال العالية، فإن استنزافها للمياه الجوفية يشكل عبئًا خطيرًا، وفي النهاية ستضطر للبحث عن مصادر أخرى للمياه ما يؤدي إلى ارتفاع متزايد في سعر السلعة.
جميع المؤشرات المنطقية تفضي إلى ضرورة وضع خطة لتصحيح انتشار سكان اليمن، وإنشاء مدن مليونية في السواحل الواعدة بالحياة والأمل والمساحات الشاسعة والوفرة المائية.
حالة عمى غريبة تسيطر على جميع النخب اليمنية فيما يتعلق بالجفاف الحتمي للمخزونات الجوفية في المرتفعات الجبلية المكتظة بالسكان، التي تشهد نموًا سكانيًا يهدد بالقضاء على مقومات الحياة: المياه الجوفية والأراضي الخصبة الصالحة للزراعة!
جميع المدن الجبلية تتوسع مساحاتها على حساب الأراضي الزراعية الخصبة، وإذا استمر الأمر بهذا المعدل، فإن اليمن هي الخاسر الأكبر كبلدٍ زراعي، وإنها لحماقة ما بعدها حماقة أن يشيد البشر بيوتهم في الأراضي البركانية الصالحة للزراعة، ويهملون الأراضي غير الصالحة للزراعة المتاخمة للشواطئ، وهي التي لا نفع منها للزراعة، ولكنها صالحة للاستيطان البشري.
من هو الحكيم الذي ينظر إلى هذا الوضع غير العقلاني ويصلحه؟
التوزيع الديموغرافي للسكان في اليمن فيه خلل فادح، ناقوس الخطر يدق منذ بداية الألفية على أقل تقدير، ويجب أن يستيقظ اليمانيون من سباتهم ويصححوا هذا المسار الانحداري نحو الهاوية.
إذا لم تنتبه النخب الحاكمة إلى هذه التحذيرات، فإن مصير اليمنيين المحتوم خلال السنوات القادمة هو النزوح إلى مواطن جديدة تتوفر فيها المياه، كما فعل أسلافهم الكسالى الذين لم يفكروا في إعادة بناء السد وهاجروا إلى ضفاف الأنهار في العراق والشام، ولبئس القوم نحن إن لم ننجح في إصلاح أمرنا وتغيير قدرنا، واستسلمنا بشكل مفجع لأن يكرر التاريخ نفسه.
* روائي وكاتب يمني
تعليقات