جيمس زغبي*
لا يزال المحللون يسعون لفهم فوز زهران ممداني الحاسم في انتخابات رئاسة بلدية نيويورك الشهر الماضي. وكحال العميان في القصة الهندية القديمة «العميان والفيل»، جاءت التفسيرات المطروحة في معظمها صحيحة، لكنها ناقصة.
كان تركيز ممداني على مسألة القدرة على تحمل التكاليف عامل جذب واضح، وكذلك لطفه الذي تجلى في منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي. كما كان تنقله الدائم، ولقاءاته مع الناخبين وتفاعله معهم أينما كانوا، عاملاً مساعدًا في ترجيح كفته، إذ عكس رغبته الصادقة في التعرف على الناخبين وأن يتعرفوا عليه.
في ظلّ المناخ السياسي الراكد الذي تهيمن عليه شركات الاستشارات الانتخابية، شكّل ممداني مسارًا جديدًا. وبينما أنفق خصومه عشرات الملايين على إعلانات هجومية سلبية، كان نهج ممداني جديدًا ومثيرًا. ورغم خوضه الانتخابات في مواجهة حملة ممولة بسخاء لدعم حاكم سابق، وجزء كبير من مؤسسة الحزب «الديمقراطي» في نيويورك التي رأت فيه تهديدًا لهيمنتها، لم يكتفِ بالفوز فحسب، بل حصد أيضًا أصواتًا أكثر من أي مرشح سابق لمنصب رئيس بلدية نيويورك في تاريخ المدينة. وكانت هناك ثلاثة عوامل أخرى حاسمة أسهمت في تحديد نتيجة الانتخابات.
العامل الأول هو التغير الديموغرافي في مدينة نيويورك. ففي عام 1980، كان أكثر من نصف سكان المدينة من البيض. أما اليوم، يشكل البيض أقل من ثلث السكان فقط. وفي عام 1980، كان عدد سكان نيويورك من أصول لاتينية 1400000 نسمة، أما اليوم فقد بلغ 2.5 مليون. وخلال الفترة نفسها، ظل عدد السكان السود مستقرًا نسبيًا عند نحو 1700000 نسمة، غير أن أكثر من ثلث السود اليوم هم مهاجرون أو أبناء مهاجرين حديثين من دول أفريقية أو كاريبية. ومن أكبر التحولات أيضًا النمو الهائل في عدد سكان نيويورك من أصول آسيوية، إذ ارتفع من بضع مئات الآلاف إلى 1400000 نسمة.
أدت هذه التغيرات الديموغرافية لصالح الجاليات المهاجرة الجديدة إلى تحولات جوهرية في تركيبة الناخبين، وكان لها أثر بالغ في هذه الانتخابات. فقد فاز ممداني بسهولة بين الناخبين الآسيويين واللاتينيين والسود. لكن من المهم الإشارة إلى أنه تقاسم تقريبًا أصوات البيض بالتساوي مع منافسه الرئيسي. ويُعدّ هذا الأداء المتميز بين جميع الفئات الديموغرافية أمرًا غير معتاد في سياسة نيويورك.
كان من أهم العوامل الحاسمة في فوز ممداني الدور الذي لعبته حركة شعبية قوية. فقد كانت منظمة «الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين»، هي القوة الدافعة وراء هذا الانتصار. وبفضل آلاف المنظمين المنتشرين في جميع أنحاء مدينة نيويورك، حققوا بالفعل عددًا من الانتصارات غير المتوقعة خلال العقد الماضي. كان أولها في عام 2018، عندما هزمت «ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز»، المرشحة الصاعدة، عضو الكونجرس «جوزيف كراولي». في ذلك الوقت، كان كراولي رئيسًا للحزب «الديمقراطي» في مقاطعة كوينز ونائبًا لرئيس الكتلة «الديمقراطية» في الكونجرس. وبطرق عديدة، كان فوز أوكاسيو-كورتيز بمثابة نذير لفوز ممداني. فقد كان كراولي يحظى بدعم المؤسسة السياسية وبأموال أكثر بكثير من منافسه المتمرد المجهول، لكن جهاز الحزب الذي كان يرأسه كان قد أصبح متراخيًا وراكدًا. أما أوكاسيو-كورتيز، فكانت تمتلك حركة شعبية تفوقت على المؤسسة السياسية في التنظيم.
في السنوات اللاحقة، حقق نشطاء «منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين» (DSA) انتصاراتٍ عديدة في انتخابات المناصب الحكومية والمحلية في أنحاء المدينة (بما في ذلك فوز ممداني في انتخابات عام 2021 لعضوية مجلس ولاية نيويورك). وقد أثبتوا أن منظمةً تضم نشطاءً متحمسين من القاعدة الشعبية قادرة على دحر المؤسسة الحاكمة وأموالها.
أما العامل الأخير الذي لعب دورًا حاسمًا في فوز ممداني، فكان تأثير حرب غزة على توجهات الناخبين عمومًا، وعلى المجتمع اليهودي في مدينة نيويورك على وجه الخصوص.
لعقود طويلة، ساد الاعتقاد السياسي السائد بأنه نظرًا لحجم الجالية اليهودية في مدينة نيويورك، فإن أي مرشح سياسي يرغب بالفوز هناك مُلزمٌ بإظهار الولاء لإسرائيل. كان يُفترض أن الجالية اليهودية متحالفة تمامًا مع إسرائيل، وأن من يسعى لكسب أصواتهم أو دعمهم عليه أن يتصرف وفقًا لذلك. لم يقتصر الأمر على إسكات أي نقاش عقلاني حول الشرق الأوسط، بل كان له أيضًا أثر مدمر على قدرة العرب الأميركيين، وخاصة المسلمين الأميركيين بعد أحداث 11 سبتمبر، على المشاركة بحرية في الحياة السياسية للمدينة.
ويبرز مثال واحد بوضوح. ففي عام 1988، أصبحت حملة «جيسي جاكسون» الرئاسية أول حملة ترحب بالمجتمع العربي. وكان التجمع وحفل جمع التبرعات الذي نظمه العرب الأميركيون لجاكسون في نيويورك من أنجح فعاليات حملته. وعندما أعلن أحد الرؤساء المشاركين لحملة جاكسون في نيويورك في العام التالي ترشحه لمنصب العمدة، كان المجتمع العربي مستعداً للمشاركة. وفي وقت مبكر من ذلك العام، استدعاني المرشح ومدير حملته إلى نيويورك. وأبلغاني أن المؤسسة اليهودية في المدينة منزعجة من الدور الذي لعبه العرب في حملة جاكسون ومن تبني جاكسون لحقوق الفلسطينيين. وقالا لي: «قل لأهلك إننا لا نريد دعمهم. إذا تبرع العرب لنا بألف دولار، فإن المجتمع اليهودي سيجمع مئة ألف دولار لهزيمتنا. أبعدهم عنّا».
غادرتُ الاجتماع مصدومًا وغاضبًا، وتوجهت إلى كتاب يهود بارزين أعرفهم في صحف واشنطن بوست ونيويورك تايمز وفيليج فويس، وأخبرتهم بما حدث. فكتبوا هجمات لاذعة ضد هذا الإقصاء القائم على التعصب. لكن الخوف ظل هو الغالب، واستمر الإقصاء.
في هذا السياق، يتضح جليًا مدى الاختلاف الهائل الذي برز في انتخابات نيويورك هذا العام. فقد أحدثت حرب إسرائيل على غزة تحولاً جذريًا في المشهد السياسي. وأصبح دعم الفلسطينيين وانتقاد السياسات الإسرائيلية من القضايا الرئيسية. بات العرب والمسلمون موضع ترحيب. وفي الوقت نفسه، حطمت هذه الانتخابات أسطورة الصوت اليهودي الموحد. فعلى الرغم من رد الفعل الهستيري المناهض لممداني من جانب المؤسسة اليهودية (حيث وصفه أكثر من زعيم بأنه «عدو للمجتمع اليهودي»)، فإن غالبية اليهود الشباب دعموا ممداني، إلى جانب أكثر من ثلث جميع الناخبين اليهود. وتُظهر هذه العوامل مجتمعةً كيف تغيرت مدينة نيويورك، وكيف يتغير الحزب «الديمقراطي» فيها، وكيف تتغير المجتمعات العربية الأميركية والمسلمة الأميركية واليهودية الأميركية، وكل ذلك نحو الأفضل.
الخلاصة: لم تعد نيويورك كما كانت.
* رئيس المعهد العربي الأميركي – واشنطن


تعليقات