وجدي الأهدل*
في غمار التدفق اللانهائي للمعلومات المنهمرة من كل صوب واتجاه، يغدو من الصعب على المرء الالتفات إلى مادة مختلفة عالية القيمة، فيمر عليها بلامبالاة دون تفحص وتدبر.
ومن هذه المواد القيمة ما نشره موقع (الجزيرة نت) عن الأستاذ في جامعة كونيتيكت الأمريكية بيتر تورشين مؤسس علم الكليوديناميكس (ديناميكيات التاريخ).
تورشين متخصص في النمذجة الرياضية والتحليل الإحصائي. وهو أول من قام بتطبيق منهج رياضي على الأحداث التاريخية. وهذا المنهج القائم على لغة الأرقام يزعم التنبؤ بالأحداث التاريخية التي ستقع في المستقبل!
إن عمل تورشين يشبه ظاهريًا عمل المنجمين والعرافين، ولكن مع فارق جوهري، هو لا يلجأ إلى مراقبة حركة الأفلاك، ولكن إلى علم الرياضيات.
وفقًا لتورشين فإن علم الكليوديناميكس هو باختصار:
“التاريخ نظام فيزيائي يخضع للرياضيات، وتحكمه دورات، وتؤثر فيه حلقات التغذية الراجعة، وتميزه نقاط تحول”.
والمقام لا يتسع لشرح وافٍ عن هذه النظرية المثيرة للاهتمام، وسأرفق رابط المادة لمن يريد الاستزادة. كما أنني آمل أن تترجم كتبه إلى اللغة العربية في القريب العاجل.
يقول تورشين إن المجتمع له ثلاث مكونات: السكان، النخب، الدولة.
ويركز تورشين عمله البحثي على الحلقة الوسطى (النخب) التي يراها مصدر البناء أو الهدم، والعنصر الفاعل في ديمومة الدولة ونموها أو تفككها واضمحلالها.
ويتنبأ تورشين مثلًا بأن الولايات المتحدة على أعتاب الدخول في مرحلة الحرب الأهلية وتفكك الدولة الفيدرالية إلى دويلات مستقلة بسبب الإفراط في إنتاج النخب.
وهو يحدد موعد وقوع هذه الأحداث الخطيرة بدقة مستندًا إلى نماذج رياضية وإحصائية.
ولكن هل هذا القدر محتوم؟ وهل هذا الحكم نهائي لا مفر منه؟ هناك مفاجأة غريبة حول هذه التحولات التاريخية الضخمة، وتورشين نفسه يوضح أن احتمالات السقوط أو الصعود قد تتعلق أحيانًا بفرد واحد.. نعم، كما سمعتم، فرد واحد إما يصنع المعجزة فتنجو الأمة من الحروب الأهلية والدمار، وإما يشعل شرارة الأحداث وتقع الكارثة!
يقول تورشين في مقابلة عام 2023:
“إننا الآن في وضع حساس للغاية.. إن فردًا واحدًا فقط يمكنه دفع المسار إما إلى حرب أهلية فوضوية، وإما إلى الإصلاح والتجديد”.
وحسب فهمي المحدود، فإن هذا الشخص ليس بالضرورة أن يكون الرئيس دونالد ترامب مثلًا، ولكنه سيكون بكل تأكيد واحدًا من (النخبة).
بالنسبة لليمن، فإن نظرية تورشين قد تحققت بجلاء مدهش.. ولو أدرك الأحداث التاريخية التي جرت في اليمن وألم بها الإلمام التام لأضافها إلى متن أبحاثه كنموذج يبرهن على صحة علم الكليوديناميكس.
منذ قيام الثورة في الشمال (1962) واستقلال الجنوب (1967) بدأت اليمن بإنتاج النخب، وبمرور السنوات تزايدت أعداد النخب بفضل التعليم العالي والجامعي، وكان هذا مصدر قوة للدولة، ورافعة للتطوير والازدهار.
لكن مع حلول عام 2010، كانت هذه النخب المتعلمة قد تزايدت أعدادها بشكل مفرط، صار حجمها أكبر مما يطيقه بلد بموارد متواضعة وبهياكل مؤسسية متخلفة صغيرة.
الوضع الذي كانت عليه الدولة اليمنية في عام 2010 كان يناسب النخب في عام 1989 وما قبله.. بعد تحقيق الوحدة عام 1990 بدأ حجم النخب -نتيجة دمج دولتين في كيان واحد- بالتضخم المتسارع.
في عام 2011 انفجر الوضع كما تتنبأ به أبحاث تورشين، فالنخب اليمنية قد تزايدت أعدادها بشكل مفرط جدًا -بالقياس إلى المجال الحيوي للدولة- ورأت هذه النخب أن من حقها إزاحة النخب القديمة والحلول مكانها، وأنها مؤهلة لتحسين مواقعها الطبقية.
لم يتمكن الرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي من إنقاذ الوضع؛ فلا هو استوعب النخب الجديدة في جسم الدولة، ولا هو حافظ على النخب القديمة لضمان عدم انفجار الحرب الأهلية.. ببساطة لم يكن الرجل المناسب للقيام بهذه المهمة التاريخية.
ما الذي حدث بعد ذلك؟ لقد تحققت نظرية بيتر تورشين عيانًا:
توزعت النخب اليمنية على عدة مراكز، ووجد الجميع له أخيرًا موطئ قدم عند هذا الطرف أو ذاك، في الداخل أو الخارج.. وحققت هذه النخب تطلعاتها، ولو على حساب المكونين الآخرين للمجتمع وهما (السكان) و(الدولة).
إن أبحاث تورشين تتنبأ بأن هذا هو مصير أيّ بلد في العالم ينتج النخبة بإفراط.. ولذلك هو يطلق تحذيرات لقومه الأمريكان من أن بلدهم على وشك الانزلاق إلى حرب أهلية مدمرة.
بالنسبة لليمن فإن الفأس قد وقعت في الرأس كما يقال، ولكن على الأقل يمكننا الاستفادة من دروس المرحلة التاريخية التي مررنا بها.
في اليمن لدينا ألف شخص يطمح أن يكون رئيسًا للجمهورية، ولكن مع بالغ الأسف هذا المنصب يفترض ألا يشغله سوى شخص واحد.
في اليمن عشرة آلاف شخص يطمحون أن يكونوا وزراء، ولا يمكن بالطبع تلبية آمالهم كلهم، لكيلا تضحك علينا الأمم، فعدد المقاعد الوزارية محدود ويتراوح ما بين 20-30 مقعدًا لا أكثر، ويشغل كل وزير مقعده بمعدل وسطي قدره أربع سنوات.
في اليمن مئة ألف شخص يشعرون بأحقيتهم للعمل كسفراء أو قناصل أو موظفين في السلك الديبلوماسي، وهم بالمناسبة يجدّون ليل نهار لنيل مآربهم، ولكن لسوء الحظ هذا السلك رفيع ولا يتحمل هذا العدد الهائل من المتسلقين.
في اليمن مليون موظف، وكل واحد منهم يرى أن من حقه الترقي الوظيفي إلى مناصب قيادية..
إن الطموح سلوك بشري طبيعي مشروع، ولكن التكالب على المناصب والأموال ليس سلوكًا طبيعيًا، إنه تعبير عن الجشع والأنانية وسوء السلوك أيضًا.
هل نمنع الأجيال القادمة من التعليم؟ هل هذا هو الحل لمنع تكرار إنتاج النخب بإفراط؟
بديهي أن التعليم مكسب وليس عبئًا، واستمرار إنتاج النخب من خلال تعليم الأجيال القادمة هو ضمانة لتطور الدولة وقوتها وازدهارها.
الحل هو تغيير هذا السلوك المتهافت على الجاه والنفوذ والثروة.. ولا أدري من الذي بإمكانه إحداث هذا التحسن الأخلاقي الجذري في سلوك النخب اليمنية.
*كاتب وروائي يمني.
تعليقات