Accessibility links

اليمن.. صيفٌ ماطر.. تراثٌ يندثر.. وأحفادٌ يخذلون الأجداد..!


عبدالله الصعفاني*

رَجُل الثلج يعيش بلا قلب.. هكذا تقول الأسطورة.. فماذا تقول أسطورة اليمني الذي عاش في القرى المعلقة في السحاب..؟

ماذا يقول أبناء قرى تأريخية هي في الحقيقة صديقة للقمر، وجارة للوادي والجبل..؟

ما هي مشاعرهم وهم يغادرونها إلى مدن الله في انتقالات داخلية إلى عالم الاغتراب في بلدان الخليج، أو هجرة إلى بلدان غربية وشرقية، ثم يكتشفون أن مساقط رأس الأجداد المتمثلة في الحصون الشاهقة والبيوت العتيقة العالية تتشقق، ثم تتساقط ويتسرب جمالها كما يتسرب الماء من بين الأصابع.

* الصيف اليمني في شِقِّه الماطر يترك في نفوسنا خليطًا عجيبًا من المشاعر المتناقضة على النحو التالي:

تضارب النعمة مع النقمة.. والفرح مع الحزن.. وجمال التاريخ مع قبح الحاضر..

“وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى.. وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاك”

المطر يحاصرك بالمتناقضات، فلا تخرج من عصف ذهني إلا بألف يا ليلاه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..!

* وكنت وما زلت أردِّد مع كل قحط وشدة وصلوات استسقاء:

 بلد لا يشق ربوعها نهر هو بلد يرحم الله.. بلد يخزق القلب السالي..!

لا أتحدث هنا عن بلدان العالم الذي يتطور صباح مساء، وإنما عن بلد كباره كثيرو الحيل والمناكفة.. يستدعون أسباب الفُرقة والتشظي، غير مدركين أن الإيمان والتقوى ليس في طول المسابح والذقون، وليس في عدد الركعات، ولا في الكلام السياسي الحرَّاق، وإنما في الخوف من الله، والخجل من الناس..!

* العبدُ لله شغوف بالمطر، وفي نفس الوقت شديد الحنق والوجع منه.. فمن ناحية المطر حياة، وهو إشراقة وابتسامة  على الأودية والمدرجات، وحتى الجبال.. ومن ناحية ثانية هو بالنسبة للحصون والبيوت التاريخية ضيف قاسٍ لا يبتسم؛ لأنه باختصار لا يرحم، ولا يعترف بالهزار.. والمطر بالنسبة للمباني التأريخية في باطنه العذاب والدمار حتى وهو الحياة والرحمة للشجر والبشر الذين لا يعتدل مزاجهم إلا بالماء.

* المدن التأريخية تعاني الإهمال بسبب فشل السياسات المحلية، وشح الهيئات الدولية، وكثرة المناطق التاريخية اليمنية العالقة في قوائم اليونسكو، حيث تغيب النظرة العادلة إلى التراث الإنساني اليمني لصالح الكثير من التراث الباهت أو المزيف.. فكيف الحال بالحصون والقلاع والبيوت العتيقة المدهشة في أماكن قصيّة من الريف اليمني مترامي الأطراف..؟

* أبناء تلك المناطق البعيدة عن العين والقلب والأضواء الإعلامية، إما فقراء، أو أخذتهم الهجرة الداخلية أو الخارجية، فنسوا مساقط الرأس وآثار الأجداد، أو أنهم  اعتقدوا أن جمهورية غينيا ستقوم بالمحافظة على الهوية المادية التأريخية لليمن، وأنها معنيَّة بصيانة ما تدمَّر بسبب الحروب وعوامل التعرية والأمطار، وظروف سكان المدن والأرياف المشغولين بلقمة العيش.

* وأمام الصورة المرفقة كنت بصدد توجيه العتاب إلى مسؤولين حكوميين لا أعرف ماذا يعملون عندما لا يعملون.. كنت أيضًا بصدد العتاب لأبناء قرية المنصبة وقرى جبل بني عرَّاف والسلطة المحلية في صعفان الذين سقط جانبًا من حصنهم التأريخي المدهش، لكنني تراجعت.

* تراجعت لأنني شخصيًا أحد الأحفاد الفاشلين في البحث عن حل يمنع تلاشي سقوط بيت عائلتنا المسمى في قرية الجرواح صعفان “البيت الكبير” الذي أخذت طوابقه الخمسة تنقرض، ولم نأخذ من المواقف إلا ما يؤكد أن لحمة الجماعة غير قابلة للإنضاج، فكيف الحال إذا غابت اللحمة في ظروف تصعب حتى على الكافر والزنديق.

* والخلاصة.. مدننا وقرانا اليمنية، بحصونها وقلاعها التأريخية، ومساقط رؤوسنا القديمة تتعرض للتلاشي بصور متدرجة، ومخيفة وبأسباب تتصدرها ثنائية الأمطار والإهمال.. ولا مكان لها في قائمة اهتمامات تعمل على تبديد حزن الأوقات العصيبة، فيما الأحفاد يخذلون الأجداد غير عابئين بمتواليات اندثار ذاكرة تأريخ هو أعز ما نملك في بنوك التراث المادي الوطني والإنساني.!

* كاتب يمني

تعليقات