Accessibility links

وجدي الأهدل*

نحن أمة كبيرة متنوعة، لكن لم نولد بعد كدولة قومية متحدة ومتماسكة.

هذا الأمل في تكوين دولة مهيبة الأركان يحفها الفخار والسؤدد هو الدور الطليعي الذي ينبغي للأدب اليمني أن يقوم به اليوم.

لقد حان الوقت لكتابة روايات تتحدث عن الأمجاد التي حققها الشعب اليمني في مراحل مختلفة من تاريخه.

وبين يدي القارئ رواية “رجال من عوالم مختلفة” للأديب السقطري فهد كفاين، تنبلج كالصبح مبشرة بهذه الآمال العظيمة.

“رجال من عوالم مختلفة” نموذج يحتذى للأدب الملحمي الذي نتطلع إليه، إنها الرواية التي ترفع الهمم، وتحدثنا عن الرؤوس الشامخة، والمآثر البطولية لأجدادنا، وتقدم شخصيات يمانية أصيلة هي مضرب المثل في الشجاعة والتضحية بالنفس في سبيل الذود عن تراب الوطن.

تحفل الرواية بالأبطال الصناديد: “الحاج أحمد قائد المقاومة السقطرية، القائد حيدوب المعروف ببسالته في المعارك، عقهول المقدام الجريء الذي لا يخشى الموت، والمقاتلين الأشداء مسداد وكييوف ومجاشم وعاسوج ومنيح ونصيب وعلي”، وعشرات غيرهم، أولئك الذين خاضوا على مدار خمس سنوات معارك حربية ضارية في البر والبحر ضد المحتل البرتغالي حتى تمكنوا من دحره نهائيًا، وأجبروه على الانسحاب ذليلًا من جزيرتهم لؤلؤة المحيط الهندي.

هذه الهزيمة الشنيعة للإمبراطورية البرتغالية في أوج قوتها، وفي مواجهة أشرس قادتها وأفضل قادتهم العسكريين (ألفونسو ألبوكيرك)، مُثبتة في السجلات التاريخية البرتغالية بالتفصيل، لكن من الجانب العربي الإسلامي لم تحظ انتصارات السقطريين المدوية بما تستحقه من التوثيق، باستثناء إشارات عامة مقتضبة، وما تناقله السقطريون أبًا عن جد بالسماع عن تلك الحروب الطاحنة.

من هذه الروايات الشفوية المتناثرة، جمع فهد كفاين مادته الروائية، وابتكر شخصياته التي تُسطِّر معجزة في حرب العصابات، والفدائيين من الغواصين الذين يحرقون سفن العدو الراسية في عرض البحر، وقد هزموا جيشًا مدربًا ومسلحًا بالبنادق والمدافع التي لم تكن معروفة في الشرق آنذاك، هؤلاء المقاتلين السقطريين الذين هم في الأصل رعاة أغنام وصيادو أسماك ولا علم لهم بالحرب، ولكن حين فُرضت عليهم، تحولوا إلى أسود مفترسة بأسلحتهم التقليدية كالسيوف والرماح والسهام، فأذاقوا العدو طعم الهزيمة.

تشارك المرأة السقطرية شقيقها الرجل في مقاومة الاحتلال، وتنشط الخلايا النسائية بقيادة (حلوم) في إسناد المقاتلين المتحصنين بالجبال، وتزويدهم بالمؤن والمعلومات عن تحركات البرتغاليين ودورياتهم وخططهم، ويشاركن وقت اللزوم في القتال ولو بالأحجار. 

رواية “رجال من عوالم مختلفة” هي مزيج من التخييل التاريخي وأدب الخيال العلمي، تركيب لنوعين مختلفين من الأدب الروائي، وببراعة تمكن فهد كفاين من الموازنة بينهما وتشييد عمل روائي باذخ.

يتخيل الروائي مسافرين عبر الزمن، من زماننا هذا وأزمنة أخرى مستقبلية، منهم من يقف في صف أسلافه ويحارب معهم، ومنهم الخائن الذي يقف في صف العدو ويتجسس لصالحه، ويكشف له أسماء الرجال والنساء المنخرطين في مقاومة الاحتلال.. إنها قصة الصراع الذي لا ينتهي بين الشرفاء الذين يناضلون من أجل كرامة أوطانهم، والخونة الذين يبيعون أوطانهم بثمن بخس..

تحضر العادات والتقاليد السقطرية الأصيلة بكثافة في ثنايا الرواية، فهي كالملح في الطعام، لأنها جزء لا يتجزأ من شخصية الإنسان على تلك الرقعة من الأرض، ونشغف بالشعر الذي ينشده الشاعر (دطودع) وشعراء آخرون مجهولون، توارثت الأجيال أشعارهم وأنشدتها في احتفالاتها ومناسباتها.

“أبشأك هو لقعود شاتا

لطعام من بشرا دقادم

شنكورك لبيار حواري

ومزتجادو قداما

قالعك بهد وطي شماتك

 اليهو اصرها ومارقح

وترجمتها:

اشتقت للنزول إلى السهول الشمالية

كي أجتني أولى الرطب الناضجة

أرغب بالإطلالة من جبل حوار

أو مرتفعات جبال قدامة

رميت بيد وتناولت بأخرى

خنجري وعصاي

والقصيدة فيها إشارة إلى مقاومة الغزاة القادمين من وراء البحار.

 هذه رواية متقنة فنيًا، من قلب سقطرى، كتبها أحد أبنائها العارفين بتاريخها وتراثها، فهي تشبه “أولى الرطب الناضجة” كما اشتهى الشاعر.

————————— 

*مقدمة رواية “رجال من عوالم مختلفة” للروائي السقطري فهد كفاين، صادرة عن دار عناوين بوكس، القاهرة، 2025.

* روائي وكاتب يمني.

تعليقات