وجدي الأهدل*
طارق عباس زبارة باحث يمني يحمل الجنسية الألمانية، درس الأدب واللغات في جامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونيخ، وحصل على الدكتوراه في التاريخ والعلوم السياسية من الجامعة نفسها، ونُشرت له عدة كتب في الآداب وتاريخ المدن.
لقد قرر صديقنا د. طارق الذهاب باتجاه مختلف عن العلوم التجريبية الموثوقة، ورمى شبكته في بحر الأدب المصطخب الزلق، فاصطاد سمكة نادرة، في جوفها جوهرة مكنونة، هي نوفيلا تقع في قرابة مئة صفحة، سماها “الشيخ شمسان وشركاؤه”، وصدرت عن محترف أوكسجين للنشر بأونتاريو الكندية، في طبعة أنيقة وغلاف جذاب صممه (أكسم قاسم)، وهي عندي من أفضل ما صدر في هذا العام (2025) في المجال الأدبي. وقد تشوقتُ لقراءتها، لمعرفتي أن في محترف أوكسجين لجنة محترمة وازنة من الروائيين والنقاد تقرأ المخطوطات المقدمة، فلا يُجاز المخطوط للنشر إلا إذا توفرت فيه مؤشرات الجِدّة وسلامة اللغة وطرافة الفكرة وسوى ذلك من معايير الجودة الأدبية المعترف بها.
أردتُ أن أقرأ شيئًا قبل النوم، فأخذت هذه النوفيلا، فإذا بها تشدني صفحة وراء صفحة، حتى أتممتُ قراءتها في جلسة واحدة، وغاصت في خواطري، فإذا بي أرى طرفًا من عوالمها في أحلامي.
نجح طارق زبارة في رسم لوحة واقعية عن الحياة في اليمن، ونوعية العلاقات الاجتماعية السائدة، والطرق الملتوية لبناء الثروات والنفوذ.
ورغم صغر حجم العمل، فإنه يحفل بالشخصيات المثيرة للتأمل، التي نكاد نشير إليها بالبنان، ونتعرف فيها على أشباه لها في واقعنا، فهي نماذج التقطها المؤلف بمهارة من الواقع الحي، وعرّى عيوبها أمام القارئ بذكاء لا يخلو من السخرية وإثارة الضحكات.
وعلى رأس هذه الشخصيات (الشيخ شمسان) الذي نما ثدياه وكبرا حتى صارا كثدييّ امرأة، فإذا هو في وضع لا يُحسد عليه، من ذكر مسيطر يقود قبيلة من المحاربين الشرسين، إلى مخلوق هجين بدأت تظهر عليه ملامح الخنوثة.. ووضع المؤلف بطل النوفيلا (الشيخ شمسان) في مواقف محرجة مضحكة تتناقض مع هيبته وصولته كشيخ تهتز الأرض تحت قدميه وترتعد الدولة من سطوته، ومن ذلك عندما وصلته دعوة من مكتب الرئاسة إلى جلسة قات مع الرئيس، فاضطر إلى تلبية الدعوة على مضضٍ، ولم يكن يعلم الفخ الذي أُعد له:
“لكن في تلك اللحظة التفت إليهما الرئيس، وابتسم ابتسامة عريضة ثم قال:
- سلامات يا شيخ شمسان! ما معاكم في صدركم، قد بيطلعوا للشيوخ أبزاز هذه الأيام، أو هذا من كثر الحبوب يا شيخنا؟ هيا انتبهوا، مش تتحولوا لمكلف ويشلوا عليكم المشيخة.
ضحك الجميع بعد هذه المزحة الثقيلة، باستثناء التاجر عبدالرقيب. احمرّ وجه الشيخ الذي أحس بإهانة غير مسبوقة، وكتم غضبه الشديد، فلو كان في مقام آخر لنهض وطعن خصمه بالجنبية فورًا، لكن المزحة هذه المرة جاءت من الرئيس”ص46.
ونلاحظ هنا تمكن المؤلف من تقليد لغة الرئيس السابق علي عبدالله صالح، فكأنه هو الذي نطق بهذه الكلمات فعلاً.
وتمضي مأساة الشيخ شمسان إلى منتهاها الطبيعي، فيفقد آلة الذكورة ويحل محلها فرج أنثوي! ولكن القارئ الذي يتابع هذا التحول لا يشعر بالفزع، ولكن بالمرح، فالنص يتبنى لحنًا كوميديًا لطيفًا فيما يتعلق بهذه الشخصية، وبذا تحققت العديد من النقاط الفنية لصالح المؤلف.
نلحظ مسحة التراجيديا في شخصية (زيد) الذي ولد في بريطانيا لمهاجرين يمنيين، ولديه شهادة عليا في تكنولوجيا الحاسوب، وعمل في الولايات المتحدة والبحرين وكينيا كخبير تكنولوجي برواتب عالية جدًا، ولكن الفضول – وهو طبع شائع رديء في تكوين الشخصية اليمنية – جعله يقبل عرضًا للعمل في بنك يمني في صنعاء.. وهناك تعرَّف على ريم حفيدة الشيخ شمسان وتزوجها، ودخل بعد ذلك في صراع قضائي محاولاً استرداد ميراث والد ريم الذي توفي واستولى على أملاكه الابن الأكبر من أولاد الشيخ شمسان، ثم استغل هذا الخصم القوي نفوذه القبلي وفي المؤسسة العسكرية ودبر قضية كيدية لزيد، فألقي القبض على زيد بحجة أنه لم يؤدِّ الخدمة العسكرية، وتم اقتياده إلى أحد المعسكرات لتأدية خدمة العلم. هذه الشخصية أظهرت حجم الفساد في اليمن، والتلاعب بالقوانين، وأن الحق كلمة لا معنى لها، فالحق مع القوي، والمال هو الحجة الدامغة!
عرف قائد المعسكر وهو أحد المقربين من الرئيس بمشكلة زيد التي أوصلته إلى معسكره:
“أي إبليس ركبك ووسوس لك بأن تعود إلى اليمن؟ لو كنت مكانك لعملت عند الجن والعفاريت لئلا أعود إلى هنا. كل الشباب يتمنى جنسية أي جنسية أو حتى إقامة وأنت ترفس النعمة وترجع إلى صنعاء، يبدو أنك تحب حياة النحس” ص96.
تخلو الرواية مما سماه القاص الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس بـ”الداء الفرنسي”، أي تلك الأساليب الأدبية الملتوية العسيرة الهضم، واللغة المتكلفة الثقيلة، والتكلف في استبطان مشاعر الشخصيات واقتحام عقولها لمعرفة ما يدور فيها، ونحو ذلك من الأساليب التي حولت النص الأدبي إلى ما يشبه جنديًا مدرعًا بدروع حديدية ثقيلة من قمة رأسه إلى ساقيه، ومحملًا بعتاد حربي معيق للحركة الرشيقة فمعه سيف وخنجر ورمح وقوس وجعبة سهام وربما ترس.. لكن النوفيلا التي كتبها طارق زبارة اتخذت أسلوبًا غاية في البساطة، فأدى النص رقصته الفنية برشاقة وخفة، والقارئ شعر بالمتعة وارتسمتْ ابتسامة على شفتيه ونال النعمة التي أسماها أرسطو التطهير “Catharsis”.
ليس هنا الموضع المناسب لمناقشة أوسع لمسألة ما هو الأدب؟ هل هو الحكاية أم الأسلوب؟ لكن فيما يتعلق بنوفيلا “الشيخ شمسان وشركاؤه” فإنها عمل أدبي ينحاز إلى الحكاية، والحبكة ظاهرة بوضوح، والشخصيات ليست هلامية تلوح كأشباح بلا أرواح، بل نجد فيها شخصيات ليست غريبة عنا ولا بعيدة عن تصورنا، فهي معروفة لنا مع تحريف بهذا القدر أو ذاك في المسميات، والقارئ اللبيب يعلم من المقصود.
أنصح كل من يحب الأدب الرفيع المستوى بقراءة “الشيخ شمسان وشركاؤه”، وسيجد فيها مزيجًا من المتعة الفنية والرموز الغنية بالمعاني المتخفية خلف ستار شفيف من التورية.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات