جيمس زغبي*
أيًا كانت الزاوية التي ننظر منها إلى الأمر، نجد أن الشريط الشمالي من العالم العربي في حالة فوضى.. يتحدث الساسة الأميركيون، مرددين موقف إسرائيل، بعدم جدية (وبلا صدق) عن نظام إقليمي جديد أو متحول. غير أن الواقع مختلف تمامًا، فقد ازداد الوضع سوءًا. إذ صعّدت إسرائيل من حربها في غزة، وواصلت هجماتها في الضفة الغربية، واحتلالاتها وقصفها للبنان وسوريا.
وقبل أن يتحدث أيّ أحد عن تحول في الشرق الأوسط، لا بد من تحقيق أمرين: يجب إيقاف عمليات الاحتلال الإسرائيلي وسلوكها الوحشي المنفلت، ويجب طرح رؤية مستقبلية تُلهم وتحوّل السياسات في لبنان وسوريا وفلسطين.
ويذكرني هذا النقاش المتعلق بالرؤية بلقاء أجريته قبل عقد من الزمن في مكتبي مع رئيس الائتلاف الوطني السوري. كان لقاؤنا ودودًا وإن لم يكن ذا طابع مميز، إلى أن همّ بالمغادرة. فبينما كان عند عتبة الباب، توقف والتفت إليّ قائلاً: «ما هي رؤيتك طويلة الأمد للمنطقة، من العراق إلى لبنان؟ وماذا ترى لنا في السنوات الثلاث المقبلة؟» هذه بالضبط هي الأسئلة التي ينبغي أن تُطرح ويُجاب عنها من كافة مستويات الحكم والمجتمع المدني في الشرق الأوسط. فمن المهم جدًا وجود رؤية استراتيجية شاملة للمستقبل تعبّر عن قيم وآمال شعوب المنطقة. ومن المهم أيضًا أن تكون هناك خطة واضحة لكيفية تنفيذ تلك الرؤية على المدى القصير. كان ردي الأوّلي ساذجًا بعض الشيء، إنني أتصور منطقة تعيش في سلام داخلي، بمجتمعات متكاملة واقتصادات موحدة وحدود مفتوحة (أو بلا حدود أصلاً) تسمح بحرية حركة الأفراد والتجارة. وبالنظر إلى الحروب الدامية التي شهدتها العقود الماضية واستمرار الاضطراب والتوتر، قد تبدو هذه الرؤية ضربًا من الخيال. وسيرى المشككون أن السلام أو الاندماج ليسا من طبائع «الطرفين». لكنني مقتنع بأنهم مخطئون. فلا يوجد شعب بطبيعته يرفض السلام أو الاندماج، ولا شعب محصن ضد ضغوط التاريخ الحتمية. وفي هذا الصدد، فإن الشرق الأوسط ليس استثناءً. نعم، تعاني المنطقة من الحروب والاضطرابات، ولكن أي منطقة من العالم لم تمر بذلك؟ كان اليأس يعم أوروبا في فترة من فتراتها. فقد كانت تلك القارة لقرون مسرحًا لصراعات دامية بين الدول والطوائف، وبلغت ذروتها في حربين عالميتين مدمرتين في القرن العشرين. من كان ليتخيل، في خضم تلك الأهوال، أن أوروبا ستنعم بسلام داخلي؟.. خلال العقود الأخيرة، شكلت أوروبا اتحادًا اقتصاديًا، وأنهت الحرب الباردة التي قسمت قارتها. ورغم أنها لم تصل بعد إلى «اتحاد نموذجي»، فإن التحولات الإيجابية والعميقة التي شهدتها تلك القارة التي كانت يومًا ممزقة لا يمكن تجاهلها. المهم هو أن تُمنح الشعوب، في خضم الصراع، رؤيةً للمستقبل وإمكانية التغيير، حتى لا تستسلم لليأس. فطرح رؤية مستقبلية يمكنه أن يلهم المجتمعات ويدفعها للمضي قدمًا، ورفض حالة الشلل الناتجة عن الشعور بأن «الواقع» لا يمكن تغييره. وعبر طرح رؤية تقدمية للمستقبل، يستطيع القادة أيضًا أن يوضحوا التناقض الجلي بين العالم الذي يسعون لخلقه، والمفاهيم التي يروج لها من يعملون دون هذه الرؤية. وعند تطبيق هذا المفهوم على الصراعات المحتدمة في المشرق، تصبح المسألة أوضح. على سبيل المثال، ما هي رؤية نتنياهو أو «حماس» للمستقبل؟
ومن يود أن يعيش في المستقبل الذي ترسمه القيادة السورية الحالية أو السابقة؟ وهل هناك من يأمل بأن يظل لبنان بعد مئة عام مقسمًا طائفيًا؟.. إنّ الرؤية التقدمية للمستقبل تُمكّن المرء من تحدي أولئك الذين لا يستطيعون التفكير خارج حدود قيود الحاضر المُغلقة. إنها ترفض أولئك الذين يسعون، لأسباب تتعلق بالسلطة والامتيازات الشخصية، إلى تجميد الواقع الحالي أو رفعه إلى مصافّ الأبدية، وترفض كذلك أولئك الذين يشوهون الدين بخطاباتهم المضللة فيسعون إلى مستقبل يعيدنا إلى ماضٍ مثالي متخيل. التفكير في المستقبل يمنعنا من خلق «أصنام زائفة» للماضي أو الحاضر، ويمنعنا من الغرور الذي يدفع البعض إلى إسقاط أيديولوجياتهم على الله لتبرير نزواتهم. كما يتطلب هذا التفكير أن نرفض إغراءات استخدام وسائل تتناقض مع الأهداف التي نسعى لتحقيقها.
رؤية مستقبلية تقوم على القيم أمر بالغ الأهمية. فمواجهة الشر بالشر، والقمع بالقمع، والتطرف بالتطرف، وصفات فاشلة. الأفكار الجديدة مهمة، وكذلك الوسائل التي نستخدمها لتجسيد تلك الأفكار.
* رئيس المعهد العربي الأميركي – واشنطن
تعليقات