Accessibility links

جيمس زغبي*
الأحزاب السياسية الأميركية في حالة فوضى. فبدلاً من أن تكون هي المحرّكات التي تنظّم سياستنا وتقودها، إلا أنها قد تم استبدالها بجهات مؤثرة من الحزبين على وسائل التواصل الاجتماعي، وجماعات سياسية غير ربحية، ولجان عمل سياسي كبرى (Super PACs)، ومليارديرات يموّلونها ومجموعات استشارية توظّفها.قبل بضعة أجيال، كانت الأحزاب السياسية هي التي تنظّم الحياة السياسية. ففي العديد من المجتمعات، كان هناك ارتباط عضوي بين الأحزاب وأعضائها. كانت الأحزاب توفّر هيكلاً وتنظيمًا وإمكانية وصول ومزايا لأولئك الذين ينتمون إليها ويشاركون في أنشطتها.

لم يعد هذا هو الحال بالنسبة لمعظم الأميركيين. فاليوم أصبحت الأحزاب مجرد «علامات تجارية» يُطلب من الناخبين التعرف عليها، ومجرد أدوات لجمع الأموال لتمويل عملياتها ولشركات الاستشارات التي توفّر حاليًا ما يسمى بـ «الخدمات» مثل مراجعة الرسائل، وقواعد بيانات الناخبين، والإعلانات، والاتصالات. بعبارة أخرى، فإن العلاقة بين معظم الناخبين والأحزاب السياسية باتت تقتصر إلى حد كبير على ارتباط فضفاض بعلامة تجارية، وتلقي رسائل بريدية أو نصية أو منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، أو مكالمات آلية تطلب المال أو الأصوات.

ورغم أن هذه الجهود تجمع بعض الأموال، إلا أن هذه المبالغ لا تقارن بمئات الملايين التي يقدّمها المليارديرات الذين يملؤون خزائن الأحزاب وجماعات المصالح «غير التابعة» الليبرالية أو المحافظة التي لديها نفوذ متزايد، ولجان العمل السياسي.

وقد تبيّن أن إحدى هذه اللجان الليبرالية المستقلة جمعت وصرفت في الانتخابات الرئاسية لعام 2024 ما يقارب ما أنفقته حملة هاريس (حوالي مليار دولار) على رسائل دعائية كانت أحيانًا تتعارض مع حملة هاريس التي يُفترض أنها تدعمها. وقد قامت المجموعات الجمهورية المستقلة بالأمر نفسه، حيث أنفقت إحدى هذه المجموعات ربع مليار دولار لاستهداف الناخبين العرب واليهود بحملات تضليل ورسائل تهدف إلى تثبيط تصويتهم.

وفي النهاية، فإن المليارات التي أنفقتها الحملات والمجموعات المستقلة أغرقت الناخبين برسائل متناقضة تسببت في حالة من الارتباك والنفور. حتى عندما قدّمت الأحزاب التمويل لشركات الاستشارات لتوظيف أشخاص للتواصل المباشر مع الناخبين، من خلال فرق طرق الأبواب (مندوبين للزيارات المنزلية) أو الاتصال عبر الهاتف، كانت هذه الجهود شكلية وغير مقنعة، لأن هؤلاء الموظفين لم تكن لهم أي صلة عضوية بالناخبين الذين يتواصلون معهم. هذا على النقيض تمامًا مما كان يحدث قبل عقود، عندما كان المندوبون والمتصلون قادة محليين منتخبين للأحزاب، يتواصلون مع جيرانهم ممن تربطهم بهم علاقات شخصية.

إن هذا الانقطاع في التواصل مع الناخبين، وضعف البنية التحتية للأحزاب، وسيل الرسائل التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من أشكال الرسائل الرقمية، هي بعض أسباب تراجع الانتماء الحزبي إلى أدنى مستوياته على الإطلاق، حيث يعرّف 43% من الأميركيين أنفسهم بأنهم مستقلون، بينما يتساوى «الجمهوريون» و«الديمقراطيون» بنسبة 27% لكل منهما. علاوة على ذلك، فقدت الأحزاب دورها في إدارة عملياتها الانتخابية لصالح المليارديرات وجماعات المصالح.

انظر إلى الدور الذي لعبته في هزيمة النواب «الديمقراطيين» في الكونجرس في الانتخابات الأخيرة، أو كيف تخطى مانحون مليارديرات إرادة الناخبين «الديمقراطيين» في سباق عمدة مدينة نيويورك القادم. خلال الانتخابات التمهيدية، أنفقت هذه الجهات 30 مليون دولار على الدعاية لتشويه سمعة المرشح التقدمي، زهران ممداني، وهزيمته.

والآن، ورغم فوز ممداني الحاسم كمرشح للحزب «الديمقراطي» لشغل منصب عمدة نيويورك، جمع هؤلاء المليارديرات أموالهم لدعم مرشح مستقل في انتخابات نوفمبر. وحتى الآن، لم ينتقد المسؤولون «الديمقراطيون» هذه الخطوة. لدى الحزب قاعدة تنص على أن المستشارين الذين يعملون ضد المرشحين «الديمقراطيين» الذين اختارهم الناخبون لن يكونوا مؤهلين لعقود ممولة من الحزب. إلا أن هذه العقوبة لم تُطبّق على تلك المجموعات التي قبلت عقوداً لهزيمة نواب «ديمقراطيين» مؤيدين لفلسطين، وهو دليل واضح على ضعف الحزب «الرسمي» أمام نفوذ إنفاق المليارديرات. بعد خسارة 1200 مقعد في المجلسين التشريعيين الفيدرالي والولائي خلال عهد أوباما، والتعرض للهزيمة في اثنتين من آخر ثلاث انتخابات رئاسية، شعرت ببعض التفاؤل عندما قرأت عنوانين في صحيفة نيويورك تايمز الأسبوع الماضي، كان أحدهما يقول: «الديمقراطيون يدرسون تغيير استراتيجيتهم الانتخابية لعام 2026: نحن بحاجة لإعادة التفكير».

يبدو أن هناك مراجعات جارية لفهم أسباب هزيمة «الديمقراطيين». ولكن بعد قراءة المقال، اتضح أن بعض المجموعات التي تجري هذه المراجعات هي نفسها شركات الاستشارات الممولة من الإنفاق المستقل، والتي تمثل أصل المشكلة. وكانت حلولهم: مزيد من اختبار الرسائل، ومزيد من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل الرقمية، إلخ. بمعنى آخر، «ادفعوا لنا المزيد وسنقوم بمزيد من الدراسة لأسباب الهزيمة».

لا دروس مستفادة. ما يجب أن يحدث، وما زال خارج جدول الأعمال، هو أن تقوم الأحزاب بإصلاح نفسها وإعادة الاتصال بالناخبين وكسب ثقتهم من خلال إعادة بناء بنيتها التحتية على مستوى الولايات والمستوى المحلي. هناك بالفعل دفعة في هذا الاتجاه داخل الحزب «الديمقراطي» من قبل بعض قادته الجدد المنتخبين. وبفضل المصلحين داخل الحزب، زادت الأموال المقدمة للأحزاب على مستوى الولايات بشكل كبير، مع تقليل المبالغ المخصصة لشركات الاستشارات الخارجية.

لكن طالما أن المجموعات الممولة من المليارديرات هي اللاعب المهيمن في العملية السياسية، سيستمر الإصلاحيون «الديمقراطيون» في مواجهة معركة صعبة لاستعادة السيطرة على الانتخابات وشؤون الحزب. في غضون ذلك، يبدو أن الوضع «الجمهوري» ميؤوس منه. فقد تمكن دونالد ترامب وحركته «لنجعل أميركا عظيمة مجددًا (ماجا)» من استغلال ضعف تنظيم الحزب، وأجبروه على الخضوع وتحويله إلى ما يشبه شركة مملوكة لترامب. فقد تعرض «الجمهوريون» الذين عارضوا سيطرة ترامب للإهانة والإسكات، أو انشقوا لتأسيس لجان عمل سياسي ركزت مواردها على حملات إعلانية «ضد ترامب»، والتي رغم إشادة بعض «الديمقراطيين» بها، إلا أنها لم يكن لها أي أثر على إعادة بناء الحزب «الجمهوري».

الخلاصة هي أن السياسة الأميركية لم تعد صراعاً بين حزبين سياسيين منظمين متنافسين، بل أصبحت منافسة بين كيانات ممولة من مليارديرات تشن حملات افتراضية في محاولة لجذب الناخبين لتأييد «علاماتها التجارية». إلى أن تُبذل جهود جادة لتنظيم الدور المدمر للأموال الطائلة في السياسة، سيستمر هذا الوضع، وكذلك استياء الناخبين ونفورهم.

* رئيس المعهد العربي الأميركي – واشنطن

تعليقات