Accessibility links

قصة قصيرة

رستم عبدالله*

دقَّ جرس المدرسة معلنًا انتهاء الحصة السادسة والأخيرة، فسرت ضجة في الفصل واعتلت البسمة الشفاه، وزغردت الفرحة في نفوس الطلاب. لملم المعلم أشياءه وغادر، واندفع الطلاب بعده فرحين، وأخذ أحمد وسهيل يغذّان الطريق نحو منزليهما.

سهيل: تبقّى لنا ثلاثة أشهر وتنتهي الدراسة، وسننعم بالعطلة المدرسية.

أحمد: ياه، كم أشتاق للعطلة وللسفر إلى عدن لقضائها هناك والسباحة!

سهيل: وأنا كذلك، سأقضي العطلة في اللعب، وسأخصّص بعض الوقت لمساعدة أبي في عمله.

مرّ أسبوع منذ هذا الحديث، وسهيل متغيّب عن المدرسة.

المعلم: من منكم يعرف سبب تغيّب سهيل عن المدرسة؟

أحمد: يُقال إنه مريض يا أستاذ، وتم إسعافه إلى المدينة.

مرَّ شهر ولم يعد سهيل من المدينة، وتواردت الأخبار إلى المدرسة بأن سهيل مريض بمرض غير حميد، وأن أباه العامل البسيط قد باع كل ما يملك واستدان لعلاجه دون جدوى، وأن علاجه يتطلب السفر إلى الخارج.

تبرع مدرّسو القرية والطلاب والطالبات وجميع أهالي القرية بمبالغ كبيرة لمساعدة والد سهيل على السفر به إلى الخارج للعلاج.

وفي المدينة أيضًا، كان هناك العديد من أهل الخير والصلاح الذين قاموا بجمع التبرعات، كما ساعدت بعض المؤسسات الخيرية في تسهيل سفر سهيل ووالده للعلاج في الهند.

اتصل والد سهيل بأمه التي كانت تتلظّى حرقة وألمًا وشوقًا على ابنها الذي سافر فجأة بفعل وطأة المرض، وكانت تأمل هي وإخوته بتعافيه وعودته سريعًا بعد أن يزور أرقى مستشفيات المدينة. تحدث سهيل، ابن السبعة عشر ربيعًا، مع أمه بصوت بدا عليه الإعياء، مصحوبًا بالتفاؤل، وطلب منها الدعاء.

مضت أربعة أشهر، وسهيل يخضع للعلاج الكيماوي في الهند، لعلاجه من ذلك الوحش الخبيث الذي جثم على صدره وعلى أحلامه، وانتزع طفولته، وحوّله في لحظات معدودة — وعلى غفلة من الزمن ومن أبويه — إلى حطام إنسان. أفقده الشهية والوزن، وحوّل جسده الطري إلى جلدٍ أسودٍ يكسوه الهزال، خلفه بقايا طفل.

كانت حالة سهيل تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، والأب يبعث الأمل الكاذب والاطمئنان إلى أمه وإخوته ومدرسيه في القرية، الذين كان يأكلهم القلق عليه. حتى زملاؤه في الفصل، الذين غابت عنهم الفرحة، لم يسعدوا بطلوع نتيجة الامتحان ونجاحهم وحلول العطلة الصيفية التي طالما تشوّقوا وانتظروها ثمانية أشهر.

بعد أن استنزف أطباء الهند كل ما جمعه والد سهيل في رحلة المرض والوجع، راحوا يسدون له نصيحة بأن يعود به إلى اليمن، ليعيش أيامه الأخيرة قرب أمه وأخواته.

عاد سهيل إلى القرية محمولًا بين ذراعي والده المكلوم، كأنه فرخ صغير، وقد نهشه المرض، وتبدّى الشحوب والإرهاق الشديد على محيّاه الذي غطّته كتل سوداء، وسهيل غائب تمامًا عن الدنيا.

احتشدت القرية بأكملها لاستقباله، وهرولت الأم المسكينة تبكي، والألم والوجع يعتصرانها وهي تحتضن فلذة كبدها بقوة، قبل أن تنتشلها ذراعا أخيها القويتان.

في منزل الأسرة المتواضع، كان سهيل يرقد في سريره الذي اشتاق إليه كثيرًا، وأمه وإخوته يحيطون به، يتمنون أن يشتهي شيئًا ليوفروه له. لكنه، وقد فقد شهيته ووزنه ونضارته، لم يطلب شيئًا البتة.

إلى أن كانت ذات ليلة باردة، حزينة وكئيبة، وبصوت واهن وضعيف يكاد يُسمع، أخيرًا نطق، وطلب من أمه وأباه وإخوته أن يبقوا بقربه. ظلّ يرنو إليهم بعيون متعبة خلت من البريق، والحمّى الساخنة تصلي جسده، والعرق يتساقط منه بغزارة، وأخته الصغرى تجاهد لتجفيفه.

لقد شعر سهيل، ذاك الطفل الصغير الحالم، بفراسة وبراءة الطفولة، بدنوّ أجله، وأن ذلك الوحش الخبيث المدعو بالسرطان قد تمكّن منه أخيرًا، وكان يريد أن يقضي لحظاته وأنفاسه الأخيرة بقرب أحبته.

فراح، محشرجًا وبصعوبة بالغة، ينطق الشهادتين، وفاضت روحه إلى بارئها…

وساد صمت مطبق، ومخيف، مخيف جدًا في المنزل. 

* قاص وروائي يمني.

تعليقات