وجدي الأهدل*
في أحد مقاهي القاهرة التي يقصدها اليمنيون التقيتُ بمثقف حاصل على شهادة الماجستير و(يُعامل) للحصول على منحة لنيل شهادة الدكتوراه.
عندما تعرف عليّ قال إنه تابعني عندما كنت أنشر في صحيفة الثقافية التي كانت تصدر من تعز، وقرأ بضع حلقات من روايتي “إضبارة جمهورية الانتفاخ” التي نشرت مسلسلة في الصحيفة المذكورة، وتحديدًا عام 1998.
كان معنا لفيف من الأساتذة يستمعون لحديثه، ولعله أعلاهم مرتبة من حيث الدرجة العلمية، ثم إذا به يطلق تصريحًا صادمًا: “أنت كاتب سكسي”!
غضضت الطرف عن فجاجته وسوء منطقه، وقلت له إن هذه الرواية المسلسلة نشرت قبل ثلاثين عامًا، فهل قرأ لي أيّ كتاب بعدها؟ فهز رأسه بالنفي.
الحقيقة لم يسبق لي أن قرأت هذا التصنيف النقدي من قبل، ولا أعرف هل له علاقة بالمدرسة النقدية البنيوية أم بالمدرسة النقدية التفكيكية، والأرجح أن له علاقة بالمدرسة النقدية الحمورية، حيث يستند المثقف الحموري على أذنيه الكبيرتين لقراءة الأعمال الأدبية، فهو لا يقرأ الكتب بعينيه، ولكن يبني أحكامه بناءً على ما سمعه عنها بأذنيه، فهو مثقف بالاسم، لا يقرأ أيّ كتاب لا لك ولا لغيرك، ولكنه يُقيِّمك ويقيم الكُتَّاب الآخرين من خلال النميمة الثقافية التي تشيع في الأوساط الأدبية، وهي نميمة معتادة في كل الأوساط الثقافية في اليمن وسواها من البلدان، ولا جديد تحت الشمس حين نقول إن جميع بلدان العالم تروج فيها النميمة الثقافية فهذه من السنن تحاسد أرباب المهن، ولكن الإنصات لهذه النميمة الثقافية والتعامل معها بجدية، وتكوين صورة سلبية عن مبدع ما هي جائزة لرجل الشارع العادي الذي لا علاقة له بعادة القراءة، وأما الأكاديمي الذي في جعبته شهادة ماجستير ويتطلع للدكتوراه، فإنها علامة من علامات الغفلة أن يردد هذه النميمة الثقافية ولا يبذل جهدًا للتأكد من صحتها بقراءة كتاب واحد على الأقل.
بعد تصريحه ذاك أراد أن يظهر بمظهر الخبير الأدبي فأضاف أن الروائي علي المقري والقاصة هدى العطاس ينتسبان أيضًا إلى “الأدب السكسي”!
كان حضرته مقتنعًا تمامًا أننا نحن الثلاثة أعلام ورواد هذا النوع من الأدب في اليمن، ولولا وجودي معه على الطاولة نفسها لقال بلا مواربة “رواد هذا النوع من قلة الأدب”.. والحقيقة أن معنى كلامه وتنظيره يشي بما في نفسه وأن لم يصرح.
هكذا نجد مثقفا أكاديميًا -وأمثاله كُثر من أشباه الأكاديميين- يَفْرِزُ عددًا من أدباء اليمن على حدة، ويصك مصطلحًا سوقيًا لتقييم كتاباتهم.
السؤال الذي دار ببالي هو: لماذا هؤلاء الأدباء الثلاثة بالذات هم الهدف لهذه النميمة الخبيثة دون غيرهم؟ علمًا أن هناك العشرات من الأدباء اليمنيين كتبوا في رواياتهم وقصصهم مفردات وجمل ومقاطع تصور هذا الجانب من الحياة الإنسانية؟
لم يكن الأمر بحاجة إلى كثير تفكير للاهتداء إلى الجواب! فهؤلاء الأدباء الثلاثة هم الذين اصطدموا بالدولة العميقة وأنفاقها الخفية.. وهو ما أدى إلى استهدافهم بالنميمة الثقافية لتكريس صورة سلبية عنهم في أذهان العوام، والأبقار المتشبهين بالمثقفين، وأشباه الأكاديميين الساعين وراء الألقاب الأكاديمية الرنانة بلا قاعدة معرفية راسخة.
وللتوضيح فإنني صرت هدفًا للنميمة الثقافية منذ حدوث أزمة رواية “قوارب جبلية” عام 2002، وصار زميلي الروائي الكبير علي المقري هدفًا هو الآخر للنميمة الثقافية بسبب روايته “حرمة” التي أثار تدريسها في جامعة البيضاء عام 2013 حفيظة المتعصبين، ونتج عنها تكفير مؤلف الرواية وتكفير الأستاذ الجامعي أحمد الطرس العرامي، وأما القاصة البديعة هدى العطاس فقد استهدفتها مطابخ النميمة الثقافية بسبب مواقفها السياسية المعارضة للسلطة.
ليست هذه المرة الأولى التي ينعتني فيها أحدهم بأنني كاتب جنسي، لقد سمعت هذا النعت مرارًا، وقرأته مرارًا، وأعلم أن من يرميني بهذه التهمة هو نفسه مكبوت جنسيًا، وتنطبق عليه مقولة “رمتني بدائها وأنسلت”! أيّ أنه يقرأ عشر صفحات مثلًا، فلا يعلق بذهنه إلا كلمة واحدة، أو جملة من سطر أو سطرين، لقد تبخر 99% من النص من ذاكرته فلم يبق سوى تلك الكلمة أو العبارة!
أتذكر موقفًا ظل عالقًا بذهني حدث معي قبل سنوات، أنسب ما يقال عنه “شر البلية ما يضحك”، وتحديدًا عام 2017، حين نشرت فصلًا من رواية “السماء تدخن السجائر” في صحيفة اليمني الأمريكي التي تصدر وتوزع نسخها الورقية في ولاية ميشيغان، والفصل المنشور لا يقل عن ألف كلمة، واستدعى السياق الإشارة إلى سنة منحوسة، فاستخدمت جملة مجازية “سنة عضو الحمار”. وقد راعيتُ حساسية القارئ اليمني من اللفظ المباشر، رغم أن السياق يسمح بذلك، وفي التراث العربي الكثير جدًا من الألفاظ المباشرة التي ترد في سياقها دون تكلف التورية. وبناءً على طلب رئيس تحرير الصحيفة الصديق العزيز الأستاذ رشيد النزيلي قام د. عبدالوهاب المقالح بترجمة الفصل إلى الإنجليزية، وهذا لأن الصحيفة الورقية تصدر نصف صفحاتها باللغة العربية وموجهة للقراء العرب، ونصفها الآخر باللغة الإنجليزية وموجهة للقراء الأجانب. والمفاجأة التي لم تخطر ببال أحد مطلقًا، أن يتجه قراء الصحيفة من أبناء الجالية اليمنية إلى الصفحة الإنجليزية التي نشرت فيها الترجمة، ويشنّعوا على الصحيفة ورئيس تحريرها، لأن اللفظ الذي اتقيناه في النص العربي ظهر بلفظه الصريح في الترجمة الإنجليزية فقامت القيامة! ومرة أخرى أطرح هذا السؤال: لماذا يتجاهل القارئ اليمني 99.9 % من النص ويركز فقط على كلمة واحدة فقط؟! لقد أثارت مفردة واحدة وردت في الصحيفة ثائرة القوم، وتناسوا أنهم يعيشون في أمريكا بلد الحريات وإباحة الملذات، والنساء في الشوارع يلبسن ملابس غير محتشمة -بمقاييسنا الشرقية- تكشف مفاتنهن، ولا واحد منهم يجرؤ على رفع أصبعه للاعتراض أو رفع صوته للاحتجاج.
أدعياء الأخلاق الحميدة وما أكثرهم في بلادنا مع الأسف، يشعرونك أنك تمتلك موقع أو منصة تعرض أفلامًا جنسية، والقاصرون لا شغل لهم سوى التردد عليها، والراشدون مدمنون عليها فلم يعد لهم في الليل أو النهار من شغل سواها!
كم نسخة بيعت من كتبي وكتب علي المقري وهدى العطاس؟ بالطبع المبيعات متواضعة جدًا مقارنة بشعب يربو تعداده على الثلاثين مليونًا، ومع ذلك سيزعم المتظاهر بالحشمة ومن لف لفه من الإمعات أن عُصبة من أدباء وأديبات اليمن هم المسئولون عن فساد الجيل وتخريب أخلاقه!
أيّ يمني تلقى قدرًا من التعليم يعرف البردوني والمقالح، ولكنها معرفة سماعية، وليست مقترنة بقراءة كتبهما، فهو بلا شك قد سمع عنهما في الإذاعة أو التلفزيون، أو من خلال ما يصله من أفواه الناس، وأما المحسوب على فئة المثقفين، فربما قرأ لهما مقالة أو قصيدة منشورة في صحيفة أو مجلة، ولكن أن يعكف على قراءة نتاجهما -وهو نتاج غزير- فهذا نادر جدًا.
هذه هي الحقيقة المرة: نحن شعب لا يقرأ، والتقدير الأدبي لا يرتبط بما كتبته، ولكن بما قيل عنك! فالويل لأدباء بلدٍ التلقي فيه ليس بالعين ولكن بالأذن.. والقيمة المعنوية لا تستمد من النص ولكن من أفواه النمامين.
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات