Accessibility links

وجدي الأهدل*

اليوم ونحن بأمسّ الحاجة إلى قائد جديد يلتف حوله اليمانيون بكافة أطيافهم، نتذكر قائدًا عظيمًا يصح أن يكون نموذجًا للقائد الحكيم للأمة، هو الأديب والمثقف التنويري محمد علي الربادي (1935-1993)، هذا الذي جسّد في خطبه وخطوات نضاله ومسار حياته قدوة ملهمة لكل إنسان يمني صادق التوجه في خدمة وطنه ومحبة مواطنيه مُخاطرًا بحياته من أجلهم.

قال الشاعر: “وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر”، وكم نأسى اليوم أن بلادنا تفتقر إلى رجل بحجم الربادي ورصيده النضالي وتكوينه الأخلاقي المتين، رجل يمتلك شجاعته في مقارعة الظلم وقول كلمة الحق، رجل لا يخشى جبروت المتسلطين، ولا يهاب ذوي الرتب والألقاب الرنانة، واحد من الشعب يرتدي الملابس الشعبية البسيطة، ولا يعرف الحياة المرفهة، ولكن في داخله شعلة لا تنطفئ للدعوة إلى تحقيق هدف الحياة الكريمة للناس.

لقد كان الربادي مزيجًا عبقريًا في الجمع بين الإسلام والحداثة، وعلى قادة اليمن المستقبليين التفكّر مليًا في هذا النموذج القيادي النادر، فهو من ناحية كان يمثل القائد الديني للجماهير، بوصفه خطيبًا لصلاة الجمعة في الجامع الكبير بإب وإمامًا لهم في الصلوات، ويمتلك الوعي الديني الصحيح لكشف التيارات التي تستخدم الدين لأغراض سياسية، وهو الذي كان شعاره “الإسلام دين الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة”.

وإذا تأملنا ما فعله الربادي، نجد أنه قام بالخطوة الأهم على الاطلاق لكسب قلوب السواد الأعظم من الشعب، فهو يعرف أهمية الدين ومكانته الراسخة في المجتمع، وهي الخطوة الناقصة التي لم تقم بها الأحزاب اليسارية في اليمن، ففقدت شعبيتها وتآكلت قاعدتها الجماهيرية، لأنها فرَّطتْ بغباء يدل على غياب الدهاء في الجانب الروحي الذي هو عمود المجتمع، وسمحت للأحزاب الدينية باحتكار الخطاب الديني لتشويه الدين وأغراضه، وأيضًا لتشويه هذه الأحزاب اليسارية نفسها وتكفيرها ومحاربتها.

وبالطبع نحن نعرف اليوم كما كان هذا الخطاب الديني فعالًا في تقليص نشاط الأحزاب اليسارية ومحاصرتها وتنفير الأجيال الشابة منها.

في جانب الحداثة كان الربادي يمتلك رؤية واضحة: الحداثة يجب أن تتجه إلى الشعب، ولا تكون حكرًا على نخبة محدودة التأثير.. فهو يعرف أهمية الكلمة ودورها المؤثر في نهوض الأمم.

قال الربادي في خطاب ألقاه في المركز الثقافي بصنعاء عام 1992:

“نريد جديدًا في الفكر، في اللغة، جديدًا في مخاطبة الوجدان، جديدًا في التكوين، جديدًا في كل ما تعودناه من عادات وتقاليد أصبحت رتيبة وكئيبة.. لأن شعبنا يتطلع إلى شيء جديد”.

نلاحظ أنه يقدم رؤية صائبة: الحداثة ينبغي أن تساعد في التخلص من العادات والتقاليد الضارة المقيدة للحرية الإنسانية، وهو يؤكد أن شعبنا مثله مثل أيّ شعب آخر في هذه الدنيا يتطلع إلى هذا التغيير.

لكن الذي حدث في اليمن خصوصًا بعد حرب 1994، هو نكوص عن الحداثة، وعودة قوية إلى العادات والتقاليد وما يتصل بها من الأعراف القبلية، وإمساك التيارات الدينية بدفة المجتمع وتغيير المسار كليًا.

إن هذا الجمع بين الإسلام والحداثة في تركيبة متجانسة، وهو المشروع الذي أنجزه الربادي، وبه تمكن من كسب أصوات الناخبين والفوز بمقعد في البرلمان، يجب على أيّ رئيس جديد لليمن أن يدرسه ويعمل به، فهذا هو الحل الوحيد لنزع استئثار التيارات الدينية بالإسلام، وكف أياديهم عن توظيفه لمصالحهم السياسية.

وما أشبه الليلة بالبارحة: في عام 1989 حضر الرئيس علي عبدالله صالح إلى إب، وألقى الشهيد الربادي كلمة وثقتها كاميرات التلفزيون، ومما قاله في خطابه الموجه للرئيس:

“متى سينتهي الظلم؟ متى ستنتهي المظالم؟ متى سينتهي العبث بالناس؟ نريد منك قيادة ثورة تصحيحية.. ثورة إنقاذ خشية الانهيار.. كثير من الناس اثروا وانتفخوا واغتنوا ولا ينظرون إلى المواطنين إلا كنظرهم إلى الحشرات..”.

وهذه الصيحة ما يزال صداها يتردد حتى يومنا هذا، وما يزال شعبنا اليمني يعاني من الظلم واستفحال المظالم، وأما العبث بالناس وأوضاعهم المعيشية فحدث ولا حرج.. وما يزال اليمني في شرق اليمن وغربها وشمالها وجنوبها يُطالب بثورة تصحيحية تُصلح الأوضاع والأحوال، ولكن لا حياة لمن تنادي! وأما تلك الفئة من الناس الذين أثروا وانتفخوا واغتنوا على حساب الشعب في عام 1989 فقد حلت محلهم فئة أخرى، أشد ثراءً وأسمن بطونًا وأغنى في أرصدتهم البنكية.. فكأنه قدر لا مفر منه أن من وصل إلى الحكم في اليمن اغترف من المال العام قدر استطاعته، وترك الشعب يتدبر أمره بنفسه، فإذا هي غابة وليست بلدًا، البقاء فيها للأقوى.

أعطى شاعر اليمن العظيم عبدالله البردوني إشارة ذات دلالة إلى الربادي، في شطر بيت من قصيدة “رسالة إلى صديق في قبره”:

نغتذي شعر الشحاري تارة… تارة نحسو خطابات الربادي.

هذه الإشارة من حكيم اليمن إلى خطابات الربادي ليست عشوائية.. لأنه رأى فيها خلاصة الثورة والجمهورية والعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية والتنوير والحداثة.. لقد مثلت كلماته جميع ما نهض من أجله كرام الرجال والنساء اليمنيين لأجل يمن جديد حر ومستقل.

من كان يجرؤ على الوقوف أمام الرئيس علي عبدالله صالح والتفوه بعبارات تنتقده شخصيًا وتنتقد أسلوبه في إدارة الحكم وجهًا لوجه غير عابئ بحرسه وجنوده وعناصر مخابراته؟ لا أحد سواه فعلها في كل مرة التقى الرئيس، لقد كان ضمير الشعب، وهو تحمل القيام بهذا الدور حتى آخر أيامه.

في مقابل رجل واحد صادق، كان هناك طوفان من المتزلفين الذين أحدقوا بالرئيس من كل جانب، وجعلوه يصم أذنيه عن استماع نصائح رجل حكيم بعيد النظر وثاقب الرأي وسليم الصدر.

صحيح أن الرجال العظماء لا يتكررون، ولكن أليس حريّا باليمانيين أن يبحثوا عن قائد جديد لبلادهم يقتفي أثر الربادي ويتمثل أخلاقه ومبادئه ونزاهته وزهده وبساطته وشعبيته؟ خطيب مفوّه يملك قلوب الناس وعقولهم بكلمات تشع صدقًا وحكمة؟ أم أن النساء اليمنيات قد عجزن أن يلدن مثل الربادي؟!

لست متشائمًا، بل يملئوني الأمل أن في بلادي ألف ربادي، وأن أثر خطاباته لن يُمحى، وسيظهر من وسط الشعب من يقوده إلى بناء الوطن العظيم الذي نحلم به جميعًا.

*روائي وكاتب يمني.

تعليقات