Accessibility links

إعلان

بلقيس محمد علوان*

في مطلع العام 2011 عدت إلى صنعاء بعد حصولي على الدكتوراه من جامعة القاهرة، وبحكم بقائي في مصر حوالي تسع سنوات كانت زياراتي لليمن متقطعة وقصيرة وتحكمها ظروف الدراسة ومدارس ابني الأكبر فراس الذي قضى سبع سنوات في حضانات ومدارس مصر، في حين كان الأصغر ما يزال في الحضانة وبعد وصولنا التحق بالتمهيدي، ومرت شهور وأبنائي يحاولون التكيف، كان الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لفراس، ومع مرور الوقت أصبح فراس صنعانيًّا أكثر مني ومن أبيه الصنعاني المولود في تعز.

في سبتمبر من العام 2011 عاد فراس من المدرسة متذمرًا يقول: ماما طلبوا مني أكتب موضوعًا في التعبير عن ثورة 26 سبتمبر، وأنا بصراحة (ما عندي شيء أقوله) ساعتها شاركته التذمر فلسنين طويلة كنا نحرص عن الحديث عن الجانب المادي للثورة المجيدة أو المنجزات: المدارس، الطرق، المستشفيات، المرافق الخدمية، وغيرها، لكن حالة عدم رضا سادت مع مرور الوقت لأسباب كثيرة نعلمها جميعًا، ومع موجة ما سمي بالربيع العربي كان الشارع اليمني يغلي وحالة شديدة من التذمر والسخط تسود الجميع، والناس ما بين منادٍ بإسقاط النظام، ومطالبٍ بإصلاحات وتغيير ملموس، وتزايد الاحتقان في الشارع اليمني وصل في بعض الأحيان إلى مواجهات دامية، وبعد مفاوضات وإسناد إقليمي ودولي تم توقيع المبادرة الخليجية وآلية تنفيذها في الرياض في الثالث والعشرين من نوفمبر 2011، وانخرطت الأطراف اليمنية في مؤتمر حوار وطني شامل استمر لعام كامل، تسارعت الأحداث وتعقدت وانفجر الوضع الأمني والعسكري منذ العام 2014 وحتى الآن.

يوم تذمر ابني من موضوع التعبير عن ثورة 26 سبتمبر تذمرت أنا كذلك، كان تذمره مقبولاً وهو الطفل الذي قضى أغلب سنواته خارج اليمن في وضع آمن ومستقر في مدرسة تنظم لطلابها الفعاليات والأنشطة والرحلات والترفيه جنبًا إلى جنب مع العملية التعليمية في إطار تقويم دراسي دقيق لا يتغير ولا يتبدل… يوم تذمر ابني تذمرت أنا أيضًا وأنا ابنة الجمهورية التي درست حتى تخرجت في الجامعة، وحصلت على حقي في التعيين والابتعاث بسلاسة، وأنا التي تشبعت بروايات والدي وأهلي والكبار والإعلام وكل المصادر التي كانت تسرد لنا الفرق بين ما قبل الثورة وما بعدها، لكن ذلك التشبع تحول لتذمر.. والسؤال هو ما الذي بدل التشبع بالاعتزاز بثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 والانتماء لها.. إلى تذمر وسخط؟

هناك خلل ما!

في محاضرة اعتيادية للدكتور جبار العبيدي (عراقي الجنسية) الذي تلقينا على يديه العديد من المقررات الدراسية ونحن في سني الدراسة بكلية الإعلام قال كلامًا في غاية الأهمية أتذكره دائمًا، قال يومها: لنتعلم من المصريين حيث الإعلام والتعليم وقبلها الأسرة والمجتمع يزرع في الصغير قبل الكبير حب مصر والاعتزاز بها، بكل فخر يقول الشخص أنا مصري، ومصر أم الدنيا، ومصر هي أمي، وغيرها من المعاني العظيمة والراسخة، لكننا في اليمن نكرس عبارات لا نعلم كم هي سيئة، وكم هي هادمة ومحطمة وتزعزع الإيمان بالوطن، خذوا بعض هذه الجمل: (أنت إلا عند أبو يمن، يا شيخ أنت باليمن، اليمن مقبرة المواهب) والقائمة تطول من العبارات المثبطة التي تتغلغل في الوجدان، وتصبح أقرب ما تكون لقواعد ومسلمات بكل أسف، ونحمّل الوطن الجغرافيا كل السلبيات التي نعاني منها وكل ما وصلنا إليه، في حين أن كل ما نحن فيه هو حصيلة سوء عملنا، سوء تقديرنا، سوء بعضنا، وسلبية أغلبنا.

وأعود لتذمر ابني من كتابة موضوع التعبير عن ثورة 26 سبتمبر وتذمري أيضًا حينها لأقول الآن له ولي ولكل شخص: لا بد أننا قد أدركنا الآن ماذا يعني السادس والعشرين من سبتمبر، ثمان سنوات من اختطاف الوطن وامتهان إنسانه كافية لنعرف ما أحدثه هذا اليوم في حياتنا وفي وجداننا، فبرأس مرفوع افتتح اليمنيون عهدهم الجديد، ولسان حالهم أبيات البردوني العظيم: 

وسرنا حشودًا تطير الدروب

بأفواج ميلادنا الأنجبِ

وشعبًّا يدوي: هي المعجزات

مهودي وسيف (المثنى) أبي

غربتُ زمانًا غروب النهار

وعدتُ يقود الضحى موكبي

أضأنا المدى قبل أن تستشف

رؤى الفجرُ أخلية الكوكب

فولى زمانٌ كعرض البغي

وأشرق عهدٌ كقلب النبي.

لا يوجد أمر مهما كان يبرر ألا نعتز ونفخر بهذا اليوم، ولا أي وضع يمكن أن يبرر أن نستصغر أو نتجاهل حقيقة أن ما بعد هذا اليوم ليس كقبله، وأنه يوم ميلاد اليمن الحديث… وأي انتكاسة نمر بها هي الطارئ في الحياة والتاريخ، ولا بد أن نستعيد مسارنا إلى المستقبل.

القيمة الحقيقية لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 ليست في المنجزات، وليست في ما تحقق وما لم يتحقق من الأهداف، القيمة الحقيقية هي في الفكرة: فكرة الرفض للعبودية، والسلالية والكهنوت، فكرة الرفض للدونية، فكرة المساواة والحرية، والعزة والكرامة، والحقوق، والانطلاق للمستقبل، وكل أخطاء حدثت لا نحاكم بها الثورة، ولكن نحاكم من اقترفوها، كل تأخر ليس للثورة فيه يد، ولكنه وزر النخب والقيادات والمتربصين بها، ويظل الوطن أكبر منهم جميعًا، واختزال الوطن في أشخاص هو قبح، فالأشخاص يُحبون ويكرهون، يبنون ويهدمون، بينما الوطن يتربع مترفعًا عن كل ذلك، لا ينبغي أن نحمله أخطاءنا وتقصيرنا وتخاذلنا، وسيظل السادس والعشرين من سبتمبر القيمة والرمز والوثبة من جديد للمستقبل.

هذه هي الفكرة والقيمة التي أقولها عن قناعة تامة في هذه اللحظة الصعبة والمفصلية من تاريخنا، أقولها لنفسي، لأبنائي، ولكل يمني حر: لقد خلقنا الله أحرارًا سواسية، وهكذا سنظل، ولن تضيع تضحيات ودماء الثوار الذين وهبوا حياتهم ثمنًا لحريتنا، سيأتي اليوم الذي يستعيد وطننا مساره نحو المستقبل، وإلى ذلك اليوم ليعمل كل شخص منا سواء كان داخل اليمن أو خارجه على بناء نفسه وتنمية ذاته، فقد يكون هذا هو الخيار الوحيد حاليًّا، لكنه الخيار الذي سيجعل من الجميع أيادي تبني غدًا نستحقه ويستحقه وطن ثار في السادس والعشرين من سبتمبر 1962، ولن يعود إلى ما قبل هذا اليوم أبدًا. 

*أكاديمية وكاتبة يمنية.

   
 
إعلان

تعليقات