يقدّم درسًا في التحدي والانتصار للحياة.. فنان مسرحي و(أستاذ) في معهد للفنون بعدن تجبره الظروف للعمل (نادلاً) في مطعم
صنعاء – “اليمني الأميركي” – محمد الصباحي:
تعكس قصة الفنان سمير سيف مدى إصرار الإنسان اليمني على تحدي قدراته انتصارًا للحياة فلم ينكسر، وقرر العمل نادلاً بجانب عمله ممثلاً.
خاض تجربة دراسية طويلة عاد بعدها للعمل مدرسًا وأستاذًا للتمثيل في معهد الفنون بعدن والتحق بخشبات المسرح مقدمًا عددًا من الأعمال المتميزة.
«الفن لم يعطني الكثير مما كنت أحلم به، بل العكس تمامًا، فقد أخذ مني صحتي ووقتي وأعصابي».
عشر دقائق هي المسافة الزمنية ما بين مَسكن الفنان المسرحي اليمني، سمير سعيد سيف (58 سنة)، في خور مكسر، حي السلام بمدينة عدن (جنوب)، ومطعم المضغوط الذي يعمل فيه (نادلاً) منذ الرابعة عصرًا وحتى منتصف الليل، ليعود بوجبة العشاء ومبلغ زهيد يعينه كمصروفٍ يومي له ولأسرته المكونة من سبعة أفراد (4 بنات وولدين والأم).
سمير سيف، كما يُحب أن يُطلق عليه، أستاذ الفن والتمثيل في معهد جميل غانم للفنون بعدن، والموظف منذ العام (1993) لأكثر من ثلاثين سنة في مكتب وزارة الثقافة بعدن، حيث شَغلَ منصب النائب التعليمي في المعهد نفسه.
سمير هو ابن الشيخ عثمان (مديرية في شمال شرق عدن) التي ترعرع وعاش فيها كبار أعلام الفن والثقافة كالشاعر محمد سعيد جرادة، وأبو الأدباء عبدالله فاضل، والفنان الراحل محمد سعد عبدالله، وغيرهم.
لم يتوقع سمير أن تأتي عليه أيام يضطر فيها لتجسيد دور حقيقي وقاسٍ، لكنه وجد نفسه مضطرًّا لأداء هذا الدور من أجل حياته وحياة أسرته… سيناريو مغاير للأدوار التي لعب بطولتها على خشبة المسرح.. إنه دور نادل أو مباشر (كما يسمونه باللهجة المحلية) في أحد المطاعم الشعبية للمضغوط (أكلة تجمع بين الرز واللحم، تُضغط معًا في قدْرٍ واحد).
التقت صحيفة (اليمني الأميركي) الفنان المسرحي سمير سيف بالتزامن مع مشاركته ممثلاً في مسرحية “هاملت” التي عُرضت مؤخرًا في عدن باللهجة العدنية.
كلمات الفنان سمير سيف كانت تصعد بصعوبة، وهي تؤكد صحة عمله في مطعم المضغوط؛ استجابة للظروف التي فرضتها الحرب في اليمن، لكنه في ذات الوقت مضى يتحدث بلغة تُشعرك بالفخر والاعتزاز انطلاقًا من قدرته على الانتصار للحياة داخل الفن وخارجه.
يقول: «الحرب محطة مدمرة لكل مكان وزمان، ولكل جوانب الحياة والعمل، وعنّي شخصيًّا كنت دائم التوكل على الله، فلم أيأس أو أفقد الأمل… فتوجهت للعمل خارج الفن بوظيفة (نادل) في أحد المطاعم القريبة من بيتي، والعمل شرف وفخر لي».
على مدار أربعة أشهر ظل الفنان سمير يتردد بشكلٍ يومي على خشبة المسرح للتدريب على دوره في مسرحية “هاملت” (دور الملك الأب) مع فرقة (خليج عدن) بعد توقف وغياب العروض المقدمة على خشبة المسرح في عدن قرابة ثلاث سنوات.. مع ذلك استطاع التوفيق بين حصص التدريب التي تبدأ من الخامسة حتى السادسة مساء وموعد عمله اليومي في (مطعم المضغوط)، الذي يبدأ عند الساعة الرابعة عصرًا حتى منتصف الليل.
يقول: «صاحب العمل في المطعم، جزاه الله خيرًا، محترم، ولديه أسرة مثلي، تفهَّم طبيعة عملي المسرحي، وضرورة تواجدي في تلك البروفات، وكذلك حاجتي الضرورية لهذا العمل تجاه أسرتي، فقام بتعديل موعد عملي، خلال البروفات والعروض، ليبدأ من الساعة الواحدة بعد الظهر حتى الرابعة عصرًا، حيث أقوم بتغيير ملابس العمل في المطعم سريعًا وارتداء ثياب أخرى حتى الوصول إلى مكان البروفات، ثم أقوم بارتداء ملابس البروفات التي تناسب دوري في المسرحية».
عملُ سمير في المطعم يعرضه للعديد من المواقف أثناء وظيفته وهو يقدم الطلبات للزبائن، فمنهم من كان يرمقه بنظرات السخرية؛ كونه فنانًا معروفًا، وآخرون ينظرون إليه بغضب، وهم يلعنون ظروف الحرب التي جعلت من فنان متقدم في السن يعمل بهذه الوظيفة، وأكثرهم كان يواري عينيه عنه خشية أن يتسبب له بإحراج… لكنه بسعادة يقول: «الفنان واحد من البشر العاديين، وخاصة في اليمن الذي يعاني الحرب، ويعاني أبناؤه من الجوع، ويحتاج رب الأسرة عملاً للإنفاق على أولاده… أنا أبتسم أمام الزبائن بكل ثقة ودون تحرّج، فقد اعتدت هذا الأمر».
معاناة كبيرة تعرض لها عدد من فناني اليمن خلال ما قبل الحرب، لكنها مقارنة بما بعدها تبدو مختلفة.
يقول الفنان سمير: «حياة الفنان اليمني ما بعد الحرب صعبة وقاسية، والفنان دائمًا مظلوم، ويعيش في تعاسة في بلد علاقته بالفنون محدودة.. لتصبح المعاناة مع الحرب جزءًا من حياته اليومية، لا سيما مع غلاء المعيشة والرواتب المنخفضة جدًّا».
الدور الإيجابي الذي لعبته أسرة الفنان سمير ساهم بشكل كبير في تفهّم وضعه وما يلاقيه من صعوبة في ظل تراجع الأعمال الفنية المسرحية والدرامية في اليمن، مما أعطاه دافعًا معنويًّا للبحث عن سيناريوهات وأدوار جديدة تناسب عمره ومكانته في التمثيل في اليمن.. يقول: «على الرغم من أن أسرتي كان لها دور مهم في حياتي الفنية، وخاصة المسرحية من خلال الدعم المعنوي، إلا أن الفن لم يعطني الكثير مما كنت أحلم به، بل على العكس تمامًا، فقد أخذ مني صحتي ووقتي وأعصابي».
خطوات الفنان سمير الأولى في عالم التمثيل ابتدأت من خلال المسرح المدرسي ما بين الأعوام 1976-1982م، حيث كانت تُقام الحفلات الفنية، وخاصة في المناسبات الوطنية.. ويذكر: «كانت لجنة الدفاع الشعبي تُقيم العديد من العروض المسرحية الطويلة والاسكتشات القصيرة، وكنا نقدم تلك العروض فوق عربيات متلاصقة كانت بمثابة خشبة المسرح».
التحق الفنان سمير سيف بمعهد الفنون الجميلة في المدينة نفسها، أو ما يُعرف بمعهد جميل غانم للفنون الجميلة، الذي يعود تأسيسه إلى سبعينيات القرن الماضي، وتخرج فيه عام 1982م، ليواصل دراسة البكالوريوس في مجال الإخراج المسرحي في الكويت (1986-1990)، ثم توجه إلى العراق لدراسة التمثيل والإخراج (1991-1992).
بعد رحلة دراسية عاد الفنان إلى عدن مدرسًا في معهد الفنون الجميلة، حيث وجد نفسه يميل بشكل كبير إلى المسرح… يوضح: «وجدت نفسي في المسرح من خلال فرقة (المتّحدين الشباب)، فقد كنت عضوًا في المسرح الوطني، الذي ساعدني على تأسيس الفرقة.. في المسرح وجدت المتعة الحقيقية والرسالة التي تلامس الكثير من القضايا المهمة في المجتمع».
ظلت خشبة المسرح لدى سمير لأكثر من أربعين عامًا هي البيت الأول له، وشارك في الكثير من الأعمال المسرحية على امتداد تلك السنوات التي كانت محطات ناجحة في مسيرته الفنية، ومن أبرزها: (ماكبث، دنيا فالتو، يا بلاشاه، مشروع الشمس والقمر، معك نازل، سيدتي الجميلة…)، بالإضافة إلى دوره المميز في مسرحية (هاملت) للمخرج عمرو جمال.
شكّل المسرح لسمير قضية تحمل في داخلها قضايا الناس في مدينته عدن.. يوضح: «المسرح هو الإنسان، يحمل معاناته واحتياجاته وأحلامه وتطلعاته».. مؤكدًا أهمية رسالة الفنان تجاه المجتمع، ونوّه بدور الفنانين الشباب قائلاً لهم: «لا بد من تقديم فن راقٍ يخدم المجتمع اليمني في هكذا ظروف قاسية، وتساهم في حل قضاياه، وعليكم التسلح بالصبر والاجتهاد، وإن أجبرتكم الظروف للعمل خارج إطار الفن، فالعمل ليس عيبًا أبدًا».
تعليقات