Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل **

ولدتُ في مدينة الحُدَيدَة الساحلية، في بيت قديم البناء، يضطجعُ على مَقْربة من الميناء، ويتكون من حجرتين رحبتين متباعدتين، إحداهما واطئة والأخرى نرقى إليها بصعود درجتين. وملحق بهما (حمّام ومطبخ) أناخ عليهما الدهر.

للدار فناء فسيح، تتمطى فيه الريح، نصفه القاصي مُشمس، ونصفه الداني مسقوف بألواح من خشب وصفيح. نهارًا نلعبُ ونتحرك تحت الجزء المسقوف، وليلاً نتسامر طلبًا للنسيم في الجزء المكشوف. كنا نتجاذب أطراف الحديث على قعائد – أسِرّة مرتفعة – ترُافقنا المداعة والقات وترمس الماء المُبرّد.

التصميم المعماري للبيت لم يعد له مثيل الآن. الحمّام يقع في طرف منزوٍ نصلُ إليه عبر دهليز طويل، وداخله يوجد زير ماء ضخم، وخارجه حوض للوضوء بطول الدهليز، وهذا ما جعلني أُخمّن أنه كان مسجدًا في الماضي..

اتخذتْ الفئران من الحمّام سكَنًا لها، وعجزْنا عن مكافحتها، ولكن بفضلها رأيتُ أول امرأة عارية في حياتي!، كانت ابنة خالتي وعمرها سبعة عشر عامًا تغتسلُ في الحمام، وفجأة سمعناها تُطلِقُ صيحات فظيعة، فجريتُ باتجاه الحمام، ورأيتها تتقافز خارج الحمّام والصابون يقطر من جسمها وشعرها وهي تنشج باكية “فأر فأر”. وأُتيحت لي عشر ثوانٍ لكي أشبع نظري منها قبل أنْ أُطرد شرّ طردة!، لقد خطف جمال جسدها قلبي خطفًا، ومنذ تلك الرؤية وقعتُ في غرام كل الإناث!

المطبخ واسع ومظلم ويلاصق الحمّام، ولكن بابه يُطلّ على الفناء مباشرة. بابان لبيتنا العتيق، واحد للضيوف يُفضي إلى رواق مكشوف ومنه إلى الديوان، وباب للنساء. اكتفينا باستخدام واحد منهما، والآخر، وهو مدخل الضيوف، استفدنا منه لتخزين كلّ ما زاد عن حاجتنا ولم نعد نستخدمه. كان يئط بأصونة محطمة، وقِطع أثاث بالية، وصناديق فيها مكائن خياطة تالفة، وشوالات مشحونة بقصاصات القماش. ألعابنا القديمة أو التي حُرِمنا منها عقابًا لنا على شقاوتنا استقرت هناك، وتوارت تحت أكداس من الخردة وطبقات كثيفة من الغبار.

كنتُ أرى شقوقًا في الجدران، وأُنذِرُ أبي أنّ البيت يوشك أنْ يتداعى على رؤوسنا،  فيضحك ويخبرني أنها شقوق سطحية لا تؤثر في الطوب الشديد الصلابة الذي شيّد به البيت. السقوف عالية بقصد التهوية والتغلب على الطقس الحار، وتُعشش في زوايا المرابيع الخشبية قبائل من العناكب الشريرة التي لا يفتأ يفترس بعضها بعضًا. والوزغ تتسلل وتجدُ لها مخابئ بين فجوات خشب المرابيع، وأحيانًا كانت تهوي على الأرض وتفرّ مذعورة غير مكترثة بالألم.

بيت فقير وخشن، يمرح فيه النمل والذباب والبعوض والصراصير وهلمّ  جرًّا من الحشرات على راحتها، وكأننا نقطن في الريف، وليس في مدينة حديثة. 

من الحوادث المؤثرة في طفولتي ظهور حيّة في المطبخ أثارت هلعًا وصراخًا، وبعد أنْ فتّشنا البيت شبرًا شبرًا اكتشفنا حفرة تحت سور الفناء اتخذتها الحيّة مسكنًا لها، الحيّة لم تُقتل، ولكن جرى طردها بدخان الحطب، ثم ردمنا الحفرة. ومن بعدها الفناء التُّرابي علته طبقة اسمنتية سميكة.

المعتقد الشعبي أنّ الجن يتصورون في هيئة أفاعٍ، وأنّ قاتلها سيتعرض للانتقام، لذلك يتم إنذارها شفويًّا لثلاثة أيام، ثم يتم الشروع في طردها إنْ لم تستجِب.

نادرًا ما تنزل الأمطار، فإذا أمطرتْ بغزارة كنا نسارعُ بجلب القدور والأواني من المطبخ ونوزّعها تحت شقوق السقف التي يتسرب منها الماء كالمنخل.

يُصلّي والدي صلاة الفجر في وقتها، في البيت، ثم يقرأ جزءًا من القرآن الكريم. وأثناء ذلك تُحضّر له أمي القهوة بالهيْل، فيشربانها وهما يتنادمان ويتلمظان بقبضة من التمر أو البلح.

قبل شروق الشمس يمتطي والدي دراجته الهوائية ويمضي إلى السوق. لم يكن يملك سيارة، وكذلك لم يكن يمشي إلا مضطرًّا. وحينما أزعجْته بإصراري على الخروج معه، اشترى دراجة هوائية جديدة بثلاث عجلات وصندوق أمامي كان يُجلسني فيه بينما يقضي مشاويره. 

في جميع الأيام كان يفتح محل الخياطة الذي يحملُ اسم عائلتنا في الساعة التاسعة صباحًا، باستثناء يوم الجمعة. وقد حافظ على هذا الانضباط العسكري طيلة حياته. يُفصِّلُ والدي الثياب العربية والمعاطف والبنطلونات الرجالية فقط. وكان عمله يُدِرّ عليه دخلًا جيدًا، إلا أنه كان كريمًا فوق العادة، يمنح ما في جيبه للمتسوِّلين والمشرَّدين وكبار السّن الذين يستجدُون ويعلمُ أنهم عاجزون عن إعالة أنفسهم. وأحيانًا كان يعود إلى البيت وقد أنفق كلّ ما كسبه في ذاك اليوم. أقرضَ أصدقاءه مقادير هائلة من المال، ولم يهتم يومًا بمطالبتهم بسدادها. كان رجلاً متصوفًا على طريقته، ولا يتبَّع أيّة طريقة صوفية معروفة. لم يكن يدَّعي التديّن أو يتظاهر بمظهر الرجل الصالح، لقد كان يحلُق لحيته ويطيل إيمانه في قلبه. لذلك كانت علاقته بالمال عابرة وخفيفة، ولم تتوثق روابط صداقة عميقة بينهما على الإطلاق. كان يمضغ القات في المساء لينشّطه على العمل خلف آلة الخياطة من الرابعة عصرًا وحتى الثامنة ليلًا. بحث عن مُكيّف في فترة العمل الصباحية، فجرّب السجائر والتمبل الهندي والقورو الأفريقي والشمّة البيضاء فلم يناسبه شيء منها، واستقر على الشّمة السوداء التي ظن أنها أخف ضررًا من غيرها، فأصبحت رفيقته المفضلة في كلّ الأوقات. كان محله مشهورًا وتفصيله المتقَن يحظى بسمعة جيدة، ولديه عدد من المساعدين الذين أصبحوا فيما بعد خياطين معروفين في المدينة ولهم محلاتهم الخاصة. أتذكّر وجوه زبائن المحل وكأنّ صورهم نُقِشت في ذاكرتي. أحدهم كان أعمشًا ويحملُ نفْسًا خبيثة بين جنبيه، رآني وأنا أُدخل الخيط في سَمِ الإبرة بسرعة البرق، فقال وهو يُفجر نظرته في داخل عينيّ: “هذا الولد عيناه كبيرتان وصافيتان كالزجاج”. وفي صباح اليوم التالي لم أقدر على فتح عيني اليمين، باعدتُ جفنيّ بأناملي فانفكتا بصعوبة، ولم أتمكن من الرؤية بها بوضوح، ووجدتُ مشقة في إبقائها مفتوحة. ذهبتُ إلى غرفة أمي ونظرتُ في مرآة التسريحة، كان الجفن الأعلى متورّمًا وحواف العين ملوثة بقذى أصفر لزِج. بعد ساعات خفّ الورم وظهرت حبة حمراء في باطن الجفن. لم تكن تؤلم، ولكن منظرها قبيح. كان المعارف والجيران يسألون فور أنْ يروني: “ماذا حلّ بعينه؟”. غسلتُ عينيّ بالصابون مرات كلّ يوم فاختفى الوسخ، وأما الحبة فازدادت احمرارًا وصار الجفن مسودًّا وغليظًا. أخذني والدي إلى طبيب العيون، وصرف لي مرهمًا للعين فلم ينفع. ذهبنا إلى غيره وكانت النتيجة هي نفسها. كرر الأطباء أنّ الحل الأخير هو إجراء عملية جراحية. لم يوافق أبي وفوّض أمري إلى الله. بعد عدة أشهر جاءت جدتي من الريف لزيارتنا، رأت الحبة في جفني وتحسستْها، ثم قالت بلهجة قاطعة: “هذا نِفِدِي”!، وفي الغد حين تناول والدي حصته المعتادة من التمر، أخذت جدتي نوى سبع تمرات وأمرتني أن أكوّمها على عتبة باب البيت، وأنْ أقول عند رصها هذه العزيمة: “نفدي نفدك من جاء قفدك”. نفّذتُ التعليمات بدقة ثم أغلقنا الباب وانتظرنا. في الضحى سمعنا دقًّا، فتحت أمي الباب، فإذا هي جارتنا العجوز (سعيدة) قد جاءت للسلام على جدتي. دعتها أمي للدخول، خطت فوق الكومة ولم تلمسها، شعرتُ بخيبة الأمل، ورحتُ آكل أظافري. أهدتْ جدتي لتلك الجارة التي تماثلها في العمر، كمية من حبوب البن السوداء والبنّية ذات الشذى العطر الفواح المقطوفة من مزارعنا في الجبل. فرحتْ الجارة السمراء كثيرًا بالبن، ودعت لجدتي وذريتها بدعاء مؤثر يهز القلوب. مكثتْ قليلاً ثم استأذنتْ في الانصراف. وهي خارجة، صدمتْ كومة نوى التمر بمقدمة حذائها وبعثرتها، فتبادلنا أنا وجدتي ابتسامة متواطئة، انتبهتْ أمي وسألتنا بعد ذهاب الضيفة عن سرّ ابتسامنا، لم أُطِق صبرًا فأخبرتُ أمي بكل شيء. سألتُ جدتي إنْ كانت الحبة ستنتقل إلى عين (جدة فهيم) فضحكتْ وقالت إن ما قامت به لن يضرها مطلقًا.

بعد يومين كانت أمي تغسلني في الحمام مع شقيقي الأصغر (أنعم)، وانفقأ الكيس الدهني فوق جفني وخرجت منه مادة صفراء، وكان شقيقي هو أول من لاحظ ذلك. خرجتُ من الحمام وقد ضمرتْ الحبة وصار لونها بلون الجلد، والجفن عاد رقيقًا ولكن به تجاعيد خفيفة. من يوم لآخر ظلت الحبة تصغر إلى أن اختفت ولم يعُد لها أثر.

مرة في إحدى الليالي استيقظتُ من النوم وأنا أبكي من ألم مبرح في أذني اليمنى، كان الوقت بعد منتصف الليل والصيدليات مغلقة. تفحص والدي أذني ووجد فيها بقايا مادة سكّرية لزجة، فاستنتج أنّ نملة تسللتْ إلى داخل أذني منجذبة إلى السكر وقرصتني. نظف والدي أذني بمنديل مبلول، ثم طلب مني الاستلقاء على ظهري، وأنْ أمسِك بخصيتيّ وأضغط عليهما برفق. تمددتُ وأدخلتُ يدي إلى تحت ملابسي الداخلية وأنا مستحٍ، وبعد دقائق بدأ الوجع يخف فشددتُ قبضتي أكثر! لا أدري متى نمت، ولكنني حين فتحتُ عينيّ في الصباح، رأيت على وسادتي بقعة صفراء من وسخ الأذن وفي وسطها نملة ميتة.

 

*فصل من رواية.
** كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات