فكري قاسم*
على فكرة إحنا في اليمن ممكن نجلس هكذا على هذه الحالة من الشتات ومن التفكك ومن الصراع في كنتونات صغيرة ومتفرقة لفترة طويلة من الزمن.
وهذه بالمناسبة هي عادة يمنية أصيلة لازمتنا كثيرًا خلال حقب كثيرة في الماضي، وسيكون الاختلاف في التواريخ فقط، وفي المسميات الجديدة مش أكثر.
كل الذين تعرفوا على اليمن، وكل الذين زاروها وقدموا إليها على الأقل من قبل ثورتي سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963 المجيدتين و22 مايو المجيد سنة 1990 وجدوها بطبيعة الحال بلادًا كبيرة مقطعة الأوصال من دون حكومة مركزية تسير شؤون الناس.
الرحالة الفرنسي”دولاميرفاى” زار اليمن سنة 1716م في رحلة استكشافية ووجدها بلادًا كبيرة منقسمة على نفسها، يتقاسم النفوذ فيها عدد من المتصارعين المحليين صحبة عدد آخر من المتصارعين الدوليين على ثرواتها وكنوزها المطمورة.
الرحالة والصحفي رينزو مازوني صاحب كتاب “رحلتي إلى صنعاء” زار اليمن هو الآخر في سنة 1877، وتنقل عبر نقاط متعددة في الطريق من عدن إلى صنعاء ووجد اليمن مجرد مقاطعات متفرقة يحكمها ويتحكم في كل منفذ فيها، وفي كل طريق للعبور شخوص متباغضون هم أشبه بقطّاع طرق يعتاشون من دخل ضرائب وإتاوات الطريق.
الرحالة الألماني “هانز هولفريتز” صاحب كتاب “اليمن من الباب الخلفي” زار بلادنا في رحلة استكشافية سنة 1930، ولم تكن بأحسن من الحال الذي وجده عليها سابقوه الذين زاروها وعاشوا خلال فترات تواجدهم وتنقلاتهم فيها ذات الظروف مع فوراق بسيطة في قيمة ضريبة الطريق للتنقل بين مدن ومناطق بلاد كبيرة مفككة أوصال، تمامًا كما هو عليه اليمن الآن بالضبط.
وفي كتابه «من صنعاء إلى كوبنهاجن» يستعرض الرحالة الدنماركي «توركيل هانسن» في تنقلاته الاستكشافية بين أراضي تهامة الخصيبة ومدن يمنية أخرى في الطريق إلى صنعاء أشكال حيوية ومختلفة من السلطات الحاكمة التي تتقاسم نفوذ البلاد المفككة الأوصال.
ولن يختلف الحال، أيضًا، مع الرحالة اللبناني أمين الريحاني، بينما كان يتنقل في أرجاء البلاد المفككة في سنة 1922م، ويدون ملاحظاته ومشاهداته عنها في كتابه الشهير “ملوك العرب”.
وهكذا عبر التاريخ عمومًا كلما تسقط الدولة المركزية في اليمن تتحول البلد إلى مقاطعات متناحرة، وتصير الطريق فيها حيث عبور الناس والبضائع هي المورد اليومي الأهم بالنسبة لكل الأطراف المتصارعة على النفوذ تمامًا كما هو حاصل الآن في اليمن المنقسم على نفسه بين أطراف عدة لا تريد لهذه الحرب نهاية لأسباب واضحة يعرفها اليمنيون الذين يعيشون اليوم هذه الحالة المتكررة من مهرة “قطّاع الطرق” أكثر مما يعرف عنها كل الرحالة الأوائل الذين زاروا البلد المفكك مرارًا، ودونوا كل انطباعاتهم عنها وعن طبيعة جبايات ومخاطر التنقل بين مدنها المتباعدة الواقعة تحت سيطرة ونفوذ أطراف عدة، محلية ودولية، لا ينظّمها قانون واحد، ولا يجمعها شرف أخلاقي موحد.
وهل يعتقد أحدكم، مثلاً، أن اليمن سيتخارج من هذا الوحل التاريخي اللزج بسهولة؟
طالما وأن الشرعية ضعيفة وتعيش خارج البلاد، ولا يتنقل أفرادها بين نقاط الطريق المتفرقة بيد كل الجماعات التي تسيطر على الأرض.
وطالما وأن الشرعية الرخوة تخوض معركة استرداد الدولة المنهارة بأدوات فاسدة، فإن كل قطاع الطريق سيظلون هم الحكام الفعليون في الأرض، وسيظل إنسان اليمن المكلوم عرضة دائمة لكل مخاطر الطريق بكل أشكالها.
كما وأن اليمن سيظل لفترة طويلة يسير على هذا النحو من الشتات، وسيظل مجرد بلاد منهارة مفككة الأوصال تحكمها فصائل متعددة ومتناحرة على الجبايات دون أن يكون لدى أي واحد في كل سلطات قطاع الطريق أي ميل مطلقًا تجاه العودة إلى سيادة الدولة.
وأما كيف سنتخارج من هذا الوحل اللزج الذي جعل البلاد عبارة عن مقاطعات يتحكم فيها مجاميع من قطاع الطرق؟، ففي اعتقادي أن الأمر يحتاج بدرجة أساسية أولاً وقبل كل شيء إلى قائد عسكري يمني شاب وملهم وشجاع من طراز فريد، مصحوبًا بقيادة سياسية يمنية شابة لديها قدر عالٍ من الاحترام للذات، ووعي جيد بتاريخ اليمن وبما يحتاجه إنسان اليمن من أولويات في حياته اليومية للحاق بالعصر وبالذهاب إلى المستقبل، بعيدًا عن الخرافات وعن مظاهر التدين النظري الكاذب والفاسد الذي يعطل عقول الناس ويمنعهم عن التفكير العملي.
وبدون ذلك طبعًا والله يا شعب اليمن ما شنخلص بسهولة ولا شنتخارج لا طريق.
*كاتب يمني ساخر.
تعليقات