وضاح عبدالباري طاهر*
لوكان للبشرية جمعاء أن تؤلف جوقةً واحدة، فما عساها تغني؟!
أحسب أنها ستغني بصوت واحد أفراحها وأتراحها. ستفخر بأمجادها وقوتها، كما ستبكي هزائمها وضعفها. ستغني خيرها، كما تترنم بشرورها.. كل ذلك سَيُؤدى بلحن عذب رقراق لا نشاز فيه ولا اختلال، تتحد فيه الظلمة بالنور، ويمتزج الحزن مع السرور في ائتلاف واتساق، وتقارب واتحاد، لا فرق بين سير هذا من ذاك.
والخير والشر ممزوجانِ ما افترقا ** فكلُّ شَهدٍ عليه الصابُ مَذرورُ
وعالمٌ فيه أضدادٌ مقابلةُ ** غِنىً وَفقرٌ، ومكروبٌ ومقرورُ
هذه هي سيمفونية الحياة، ونغمها الخالد.
ذكرتُ هذا حين تأملتُ قول المعري:
ضريبُك من بني الدنيا كثيرٌ ** وعزَّ اللهُ ربٌّك من ضريبِ
وما العلماء والجهال إلا ** قريبٌ حين تنظرُ من قريبِ
وقد سبق المعري الإمام علي، رضي الله عنه، فقال: “الإنسان إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”.
قال شارح النهج ابن أبي الحديد: “إما أخوك في الدين، أو إنسان مثلك تقتضي رقة الجنسية، وطبع البشرية الرحمة له”.
وفي رسالةٍ لجبران إلى صديقه ميخائيل نعيمة يقول له فيها: “وكم مرة حادثتُ أحد أساتذة هارفرد، وشعرت بأنني في حضرة شيخ من مشايخ الأزهر، وكم مرة حادثتُ سيدة بوسطونية، وسمعت من فهمها ورقيها ما كنت أسمعه من جهالة وبساطة عجائز سوريا.. الحياة كلها واحدة يا ميخائيل، ومظاهر الحياة في قرى لبنان مثلها في بوسطن ونيويورك وسان فرنسيسكو”.
أليس قول جبران إن الحياة كلها واحدة، يطابق قول المعري:
“كادت تساوى نفوسُ الناس كلهمُ”.
وجبران في هذه الرسالة يؤكد – أيضًا – ما ذكره المعري، وهو يصور مع ذلك حالة الجمود التي تستولي على بعض المنتسبين للعلم ممن يظنون أنهم بلغوا الغاية في العلم، سواء أكانوا أساتذة في أرقى الجامعات الغربية، أو شيوخًا في أعظم الجوامع الإسلامية، وكيف أن الغرور يجني عليهم، وأن الخمول والاسترواح لما حصّلوه من ظواهر العلم، حجاب يحول دون استزادتهم من المعارف والآداب، والحكم والفنون.
وفي حوار زوربا مع الراهب زكريا، وسؤاله له:
– بالمناسبة، ألا يسكن في داخلك إبليس، أيها الأخ زكريا؟
فانتفض الراهب، وسأله مذهولاً:
– كيف حزرت؟
فأجاب زوربا:
– إنني قادم من جبل آتوس، وأنا أعرف عن مثل هذا الموضوع!
وخفض الراهب رأسه، وخفت صوته إلى حد أنه لم يعد يسمع، وأجاب:
– نعم في داخلي إبليس.
– وهو يريد السمك، والكونياك، أليس كذلك؟
– نعم عليه اللعنة ثلاث مرات!
وفي خفض الراهب رأسه، وخفوت صوته، يذكرنا ببيت المعري:
إذا قلتُ المحالَ رفعتُ صوتي**وإن قلتُ اليقينَ أطلتُ همسي
إن اليقين هي لغتنا المنسية المكبوتة والراسبة في أعماقنا، في قَعْر اللاشعور واللاوعي منا، ولا نجرؤ على التحدث عنها.. إنها في القبو مخبوءة، بل لا نستجيز حتى أن نحدث بها أنفسنا، وإن تحدثنا عنها، كان ذلك على سبيل السِّرار والهمس.
إن سبب مأساة الحلاج، وما جرى عليه من التعذيب بقطع أطرافه الأربعة، وقتله، وصلبه، وتحريق جثمانه، وذره في نهر الفرات، كما يقول الشيخ عبدالقادر الجيلاني، أنه باح بالسر، وأظهر ما كان ينبغي له أن يكتمه.
بالسِّرِ إن باحوا تباحُ دماؤهم ** وكذا دماءُ العاشقين تباحُ
وفي خطاب زوربا مع رب عمله الرئيس:
– أنت تفهم! أنت تفهم، وهذا ما سيضيعك.. لو كنت لا تفهم لكنت سعيدًا.
يذكرنا هذا بأبيات للمتنبي:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقلِه ** وأخو الجَهالَة في الشّقاوة ينعَمُ
و:
تصْفو الحياةُ لجاهلٍ أو غافلٍ ** عمّا مضى منها وما يُتوقّعُ
و:
يخلو من الهمّ أخلاهُم منَ الفِطَنِ
والمعري في لزوميته:
أيعكِسُ هذا الخلقَ مالكُ أمرهِ ** لَعلّ الحِجى والحَظّ يجتَمِعان؟!
وهو في هذا ناظر إلى بيت المتنبي:
وما الجمع بين الماءِ والنارِ في يدي ** بأصعبَ من أن أجمع الجَدَّ والفهما
أما عبارة ميخائيل نعيمة، فهي: “ما مِنْ نقد متداول في سوق المعرفة سوى الألم”.
وفي حوار زوربا مع الراهب زكريا أيضًا:
– كيف أصبحت راهبًا؟
فقهقه الراهب:
– لعلك تعتقد أن ذلك بسبب القداسة؟ كم أنت مخطئ! بسبب الفقر يا أخي، بسبب الفقر.. لما لم يكن عندي شيء آكله، قلت في نفسي: ليس عليك إلا أن تدخل؛ كي لا تفطس من الجوع”.
تذكرنا قصة الراهب بقصة حجة الإسلام الغزالي، وبداية نشأته في طلب العلم، فقد كان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكان له بطوس، فلما حضرته الوفاة وصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل الخير، وأعطاه ما يملكه من مال قائلاً له: علمهما ولا عليك أن تنفد في ذلك جميع ما أخلفه لهما.
فلما مات أبوهما أقبل الصوفي على تعليمهما إلى أن فني ذلك النزر اليسير من المال، وتعسّر على الصوفي القيام بقُوتِهما، فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فأواسيكما به، وأصلح ما أرى لكما أن تلجآ إلى مدرسة كأنكما من طلبة العلم، فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما، ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما، وعلو درجتهما، وقد كان الغزالي يحكي هذا ويقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله.
كما تذكرنا قصة الراهب بهذا البيت الآتي، والذي ذكره ابن المجاور في (المستبصر)، وهي أليق بها من قصة الغزالي، رضي الله عنه:
وشيخٍ قال لي لما رآني ** وقد صليتُ زهدًا ثم صمتُ
على يد أي شيخٍ تبتَ قل لي ** فقلتُ: على يد الإفلاسِ تبتُ
وكان العلامة ابن تيمية كثير النكير على مدعيّ التصوف، ينشد هذا البيت على لسان فقراء الصوفية:
والله ما فَقْرنا اختيار ** وإنما فَقرنا اضطرار
جماعةٌ كلنا كسالى ** وأكلنا ما له عيار
يُسمع منا إذا اجتمعنا ** حقيقةً كلها فشار
ومن تأمل هذه الأبيات السابقة في دجاجلة المتصوفة، وحال رهبان النصارى كما تمثلهم رواية زوربا، أو رواية أحدب نوتردام لفيكتور هيجو، أو جبران خليل جبران لم يعدم التشبيه والمماثلة.
وفي حوار الراهب مع زوربا والرئيس:
– إلى أين تذهبان، أيها الشجاعان؟
فأجاب زوربا:
– إلى الدير لنؤدي واجباتنا.
فصرخ الراهب، وعيناه الزرقاوان الباهتتان تحمران:
– عودا من حيث جئتما أيها المسيحيان! عودا من حيث جئتما، من أجل الخير الذي أريده لكما! إن هذا الدير ليس «حديقة العذراء»، بل بستان إبليس.. الفقر، والطاعة، والعفة إكليل الراهب كما يقولون! هيْ هيْ هيْ اذهبا أقول لكما.. المال، والكبرياء، والغلمان! هذا ثالوثهم الأقدس”.
يذكّرنا ببيت المعري:
أرى جيل التصوف شر جيلٍ ** فقُل لهمُ وأهوِنْ بالحلولِ
أقال الله حين عشقتموه ** كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
وقد نعى العلامة الشاعر ابن شهاب أيضًا على المنتسبين للتصوف زورًا في قصيدة ذمهم فيها، وأجاد تصوير تنمسهم، وأبان السُّبل والشِّباك التي يصطادون بها المال، والجاه، والشهوات، يقول في ضمنها:
ولهم مع الجنسِ اللطيف لطائفٌ ** أبتِ المروءةُ ذكرَها للناقلِ
في الحوار الآتي، الذي يحكي صورة الوداع بين الرئيس وزوربا، يبدو لنا أمران:
الأول: هو الأشواق والآمال التي يحملها الإنسان بين جنبيه، ويود لو يعانقها يومًا ما في رحلته المضنية بحثًا عن الذات العليا، والحقيقة الأسمى، والتي لا يصل إليها إلا عن طريق الحياة الروحية.
والثاني: هو الأفكار النمطية التي يحملها الرجل عن المرأة، ويقولبها فيها.. فلنصغِ لزوربا في خطابه مع الرئيس:
– “إن ما تقوله لي الآن من أننا سنلتقي ثانية، وسنبني ديرًا، ليس إلا عزاءً فظيعًا.. إنني لا أقبله! لا أريده! ماذا؟ هل نحن نساء لنحتاج إلى العزاء؟!”.
هذه الأمنية التي يبوح بها الرئيس لصديقه زوربا، وهما على وشك مغادرتهم لكريت، ويرد عليها زوربا، تذكرنا بأمنية جبران التي يتقاسمها مع صديقه نعيمة، حين يستولي عليه الحنين، وتلقي غربة المكان بثقلها الكبير على صدره:
“لا بد يا ميشا، لا بد لي ولك من الرحيل عن هذه البلاد… لو كنت تعرف الصومعة التي اخترتها لي ولك هناك، لكنت تجذبني من يدي في هذه الدقيقة، وتقول: هيا بنا إليها.. هي صومعة أصلية يا ميشا لا تقليدية كصومعتي هذه… هي دير قديم مهجور في ضاحية من ضواحي بشري اسمه مار سركيس قائم في جبهة وادي قاديشا في سفح جبل الأرز”.
أليست أشواق الرئيس وآماله في العزلة والعودة إلى عالم يلفه الهدوء، وتغمره السكينة يخلو فيها بنفسه، ويتحد مع خالقه، هي نفس أشواق جبران؟
أما إذا كان العزاء فقط من خصال النساء عند زوربا اليوناني، فإن الأسى والأسف على الحب هي من شيم النساء أيضًا عند أبي مريم السلولي العربي أيضًا.
يذكر المبرد في (الكامل) أن عمر بن الخطاب قال لأبي مريم السلولي:
– والله لا أحبّك حتى تحبّ الأرض الدم.
– قال: أفتمنعني حقًّا؟
– قال: لا.
– قال: فلا بأس، إنّما يأسف على الحبّ النساء.
والحق أن العزاء، والأسف على الحب، للرجال حظهم منه كما للنساء مِثلاً بمثل، وسواءً بسواء..
ورجالُ الأنام مثل الغواني ** غيرَ فرقِ التأنيثِ والتذكيرِ
النار ولا العار
كمّن مانولاكاس لزوربا ليثأر لكرامته المهدورة، وشرفه المهان من زوربا على إثر عراك جرى بينهما كانت فيه الغلبة لزوربا، فعاد مانولاكاس ليعيد الكرّة مع زوربا، ودار بينهما الحوار التالي:
– من هناك؟
– أنا، مانولاكاس.
– تابع طريقك، اذهب!
– لقد لوثت شرفي يا زوربا!
– لست أنا الذي لوّث شرفك يا مانولاكاس. اذهب أقول لك. إنك فتي قوي، لكن الحظ هو الذي شاء الأمر هكذا. إنه أعمى، ألا تدري ذلك؟
فقال مانولاكاس (وسمعت أسنانه تَصِر):
– حظ أو غير حظ، أعمى أو لا، إلا أنني أُصِرُّ على أن أغسل عاري هذا المساء بالذات.. أمعك سكين؟
فأجاب زوربا:
– كلا.. ليس معي إلا هراوة.
– اذهب وجئ بسكّينتك، إنني أنتظرك هنا. هيا!
أليس هذا النوع من التفكير عند مانولاكس، وتفكير المتنبي القائل:
لا يسلمُ الشرف الرفيع من الأذى ** حتى يراقَ على جوانبه الدمُ
وسعد بن ناشب القائل:
سأغسل عني العار بالسيف جالبًا ** عليَّ قضاءَ الله ما كان جالبا
أليس هذا النوع من التفكير حول «الشرف الرفيع»، و«غسل العار»، والرغبة في الثأر لـ «النرجسية المجروحة»، لدى كل من المتنبي، وسعد بن ناشب، ومانولاكس، يطفح من بالوعة واحدة؟!
* كاتب يمني.
تعليقات