Accessibility links

إعلان
إعلان

عبد الباري طاهر*

خمسة أعوام مرّت ولا يزال سعير الحرب في اليمن في اشتداد.. إنها حرب لا يتفوق على غرائبيتها إلا جرائمها وتدميرها؛ فهي ما إنْ تضعف في مكان، حتى تشتد في مكانٍ آخر، وإذا انتصر طرف في جبهة؛ فسيُلحِق به الطرف الآخر الانكسار في مكان آخر.

كل الأطراف تخوض الحرب ضدًّا على الشعب؛ فهي حرب مفروضة ضد الإرادة الشعبية، فللمرة الأولى – في التاريخ اليمني المعاصر – تُغطّي الحرب اليمن كلها، وتُخاضُ الحرب كصدى للصراع الإقليمي.. إنها حرب وكالة بامتياز، صحيح أن جذرها يتجلى في الصراع على السلطة بأدوات القبيلة، ودعاوى التمذهب (السُّنّي- الشيعي)، ولكن الصراع (الإيراني – السعودي) فاعل قوي، ويرتبط الصراع الإقليمي بصراع دولي، وهو ما يُفسّر طول أمد الحرب وقسوتها.

في الأسابيع، وربما الأشهر الأولى، كانت الشرعية المعترف بها دوليًّا، ودول التحالف التي تجاوزت العشر في البداية تعتقد أنّ “عاصفة الحزم” لن تستغرق أكثر من أسابيع أو أشهر، ومرت السنوات الأولى والوهم لا يزال يُعشعش، ولكنه الآن، وبعد مضي خمسة أعوام، بدأ “الأمل”، وهي التسمية الثانية للحرب (السعودية – الإماراتية) بعد عاصفة الحزم، بالتراجع، وربما الانكسار.

سقوط نهم، وأخيرًا الجوف، وهما الجبهتان الأساسيتان المدخرتان لإسقاط صنعاء، ولحماية الحدود السعودية، وآبار النفط في مأرب وشبوة، وحماية الطريق إلى مختلف مناطق الجنوب، يُرجّح الكفة لصالح الحوثيين كحالة من حالات المدّ والجزر، وربما لِما هو أبعد.

بداية الحرب، والنتائج الأولية لسير المعارك، والآثار التدميرية للقصف السعودي – الإماراتي، وسرعة إخراج أنصار الله من مناطق الجنوب، وما حققه التحالف في الساحل الغربي، أغرى الشرعية ودول التحالف أنّ النصر قاب قوسين أو أدنى، وتقمّص المنتصرون زهوًا وغرورًا كبيرين، والخشية أنْ تكون الانتصارات في نهم والجوف وبعض الجبهات مصدر إغواء وإغراء لأنصار الله في التعويل أكثر فأكثر على الحسم العسكري، والمزيد من الاعتداد بالقوة كمصدرٍ وحيد للوصول إلى السلطة، وتحقيق “النصر المبين”.

وَهْمُ القوة وغرورها هو الداء الوبيل الذي يطال كلّ قوة عبر التاريخ، وقد عابها القرآن الكريم على المؤمنين في معركة حُنين: (… وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا .. الآية)..[التوبة: 25].

المأساة أنْ لا أحد يتّعظُ بتجارب الحياة، وعظات التاريخ وعِبَره؛ فالغرور الذي تلبّس التحالف قد يُصيب أنصار الله ليسير في متاهة الحسم العسكري الذي لا نهاية له، غير مدركين – كما هو شأن التحالف – أنّ الحسم العسكري في اليمن صعب، إنْ لم يكن مستحيلاً؛ فتاريخ الحروب في اليمن الطويل والممتد زاخر بشواهد كثيرة، فقد عجزت امبراطوريات كالرومان، والفرس، والأحباش، والبرتغاليين، والمماليك، والأتراك عن حسم المعارك في اليمن، وتاريخ الحروب الأهلية هو الآخر يؤكد أنّ الحروب الأهلية لا تُحلّ إلا بالتصالح كحربَي (72، و79) بين الشمال والجنوب، فهذه الحرب المركّبة المتداخلة – حد الامتزاج بين الأهلية والإقليمية والدولية – لن تُحلّ بحسم عسكري لطرف على آخر.. المخيف أنه مع إطالة أمَد الحرب تعاظمت هيمنة الإقليمي على الداخل، وتزايد ارتهان المقاتل اليمني لصالح الممول والداعم الإقليمي.

قد يكون الطرف الإقليمي معذورًا بجهله، وبعمى مصالحه في إطالة أمد الحرب، ولكن المُساءل الأول هو اليمني الذي يُشاهد دمار وطنه، وتقتيل أهله، وطمس تاريخه، ثم يستمر بعد ذلك في قتال عبثي وشنيع حَوَّلَ بلاده إلى أسوأ كارثة في العصر حسب تقارير الأمم المتحدة والإعلام، وشواهد وقائع الحرب على الأرض.

الرهان على حسمٍ عسكريّ وَهْم كبير واقع فيه الجميع، وثمرته الكريهة المزيد من التدمير والخسائر البشرية والمدنية.. مأرب الآن نقطة المواجهة المنتظرة والقادمة، وهي موقع إغراء مهم؛ بسبب مكانتها التاريخية كعاصمة وحضارة للدولة السبئية؛ وهي، أيضًا وحاليًّا، مركز الوجود العسكري للشرعية والتحالف، وهي – وهذا هو الأهم – مركز الثروة النفطية، والبوابة للمحافظات الشرقية (شبوة وحضرموت).

تجري تسريبات تطمينية عن وجود اتصالات ومساومات لحلّ سِلمي ومُرضٍ في مأرب، ومؤشرات ذلك غير متوفرة لدى كلّ الأطراف سواء الداخلية أم الإقليمية الجانحة للصراع.. المعركة في مأرب قد لا تتأخر كثيرًا، وقد تكون الرافعة الأخطر لامتداد الصراع واشتداده؛ فالموقع الاستراتيجي للجوف ومأرب كمنطقة متاخمة، ووجود الثروة النفطية في مأرب وشبوة هو من الأسباب الجوهرية والأساس في الصراع كله، ومنذ البداية.. الصراع القادم على مأرب أو في مأرب كلفته كبيرة وخطرة، وقد يسهم في إطالة أمد الحرب، والتسبب في إحراق الثروة، وتدمير المعالم الحضارية لسبأ ومعين – الحضارتين الإنسانيتين القديمتين، والمرعِب أنّ أطراف الحرب كلها لا يعني لها شيئًا تهديم الآثار الإنسانية والمعالم الحضارية.

المهووسون بالحرب، والمغرورون بالقوة – وكلهم مغرورون بها – لا يحتكمون إلى منطق، ولا يرجعون إلى عقل، ولا يُعيرون معاناة الناس ومصالحهم أي اهتمام.. مأرب الآن منطقة تحوّل مرتقبة، إما باتجاه السلام والحلّ السياسي السلمي، أو مواصلة الحرب، وجليّ أنّ الصراع الكالح لم يعد بيد اليمنيين وحدهم، ولربما – أيضًا – ليس محصورًا في الصراع الإقليمي، وإنما له امتداد وارتباط بالصراع الدائر في المنطقة العربية كلها، واللاعبان الدوليان: أميركا، وبريطانيا، هما الفاعلان الأكثر تأثيرًا.

ما فعلته حرب الخمسة أعوام هو تدمير مصادر القوة والتأثير في المجتمع اليمني، وزرع العداوات بين مختلف الأطراف، وتفشّي الوباء حتى داخل الطرف الواحد.

قدْر كبير من الأوهام، وفقدان الثقة هو السائد، وهو ما يُهيّئ لحرب الكل ضد الكل.. الطرف الإقليمي لا مصلحة له في انتصار أيّ طرف، حتى لو كان الطرف الحليف؛ فتكتيكه قائم على “توازن الضعف”؛ فالسعودية والإمارات لا غاية لهما غير إضعاف الكل؛ حتى يتمكنا من التسيّد، واقتسام الغنائم، أما إيران فتتغيا فك الحصار عنها، والضغط على السعودية والإمارات كي لا تقف ضدها، أو أنها تُعلن الحرب ضدهما بالوكالة.

*نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق

   
 
إعلان

تعليقات