هذا ما فعلته عُزلة الوباء بسينمائيّ يمنيّ مهاجِر
كون/ صنعاء – “اليمني الأميركي” – أحمد الأغبري:
خلال شهرين من عُزلة الوباء وجَدَ المُخرِج السينمائي اليمنيّ المُقيم في فرنسا، حَميد عُقبي، نفسه يقتربُ من الفن التشكيلي دون تخطيط أو سابق مشروع، فأخذ يقضي مع ابنه وقتًا للترفيه فقط، لكن هذا الوقت أخذ يتحول تدريجيًّا إلى علاقة مختلفة بدأ معها يتعلم ذاتيًّا مهارات الإمساك بالفرشاة متجاوزًا رهبة التعامل مع الألوان وتشكيل لوحة ما زالت تنضج.
اللوحة التي يشتغل عليها (عُقبي) بقدر ما تُعبّر عن خصوصية تجربته مع عُزلة الوباء فهي، أيضًا، تُعبّر عن رغبته الملحة في تقديم لوحة خاصة به نلمح بَصْمتها من بعيد؛ وهي تجربة تعكسها عشرات اللوحات التي أنجزها خلال ما مضى من العزل. وقد حظيت هذه اللوحة باهتمام نقدي وإعلامي خلال عرضه لها على حائطه في موقع “فيسبوك”.
ويتحدث عُقبي لصحيفة (اليمني الأميركي) عن معرض يُعِدّ لتنظيمه، في الآونة القليلة المقبلة في حال تحسّنت ظروف الوباء، في مختبر الفن بمنطقة النورماندي بمدينة كون الفرنسية، حيث يُقيمُ منذ عام 2001.
حميد عُقبي، الذي تخرج في كليّة الفنون الجميلة ببغداد، ونال دراساته العليا في جامعة كون النورماندي الفرنسية في مجال الإخراج السينمائي، لم يكن يتوقع يومًا أنه سيمسك بالفرشاة ويُمارس التشكيل، لكنها عزلة الوباء منذ أبريل/ نيسان منحته مصادفة شراء بعض مستلزمات الرسم لابنه الموهوب في الرسم في مدرسته، وإذا به، خلال تجاربه في الرسم، يُمسك بالورق ويستخدم ألوانه ويرسم؛ لتدفعه التجربة الأولى إلى الاقتراب أكثر من الرسم، موضحًا «عرّضتني كارثة وباء كورونا لصدمة الفراغ كما صدَمت العالم كله.. في البداية بدأتُ مع ابني، وأخذتُ أرسمُ معه، ورسمتُ لوحة على ورق بسيط، ووضعتها في “فيسبوك”؛ فحصلتُ على إشادة وتشجيع كثير من الأصدقاء؛ فاقتربت كثيرًا من الرسم، وكانت هذه التجربة نوعًا من الترفيه وقضاء وقت فراغ العُزلة، ورسمتُ اللوحة الثانية والثالثة، وبعد ذلك رأيتُ أنّ شيئًا ما يجذبني للرسم؛ فاشتريتُ أوراقًا وألوانًا عادية، وبدأتُ أرسم اللوحة الرابعة؛ فوجدتُ أنه كلما رسمت لوحة أشعرُ أنّ ثمة أشياء بداخلي تريد الخروج عبر الألوان، وهكذا تواصلَت التجربة وصولاً إلى شراء أدوات احترافية، وبدأتُ أُمسك الفرشاة، وأكتشفُ الألوان مع كلّ لوحة، وكلما رسمتُ لوحة تأتي أفكار أخرى وتتفاعل مشاعري لتُعزز من علاقتي بالرسم… وخلال ذلك كان يتواصل معي فنانون ونُقّاد مشجعين للتجربة ومحفزين. كبر الحلم، ومِن ثم بدأتُ أشتغلُ على أدوات أكثر احترافية، وتزايد عدد الساعات التي أقضيها يوميًّا مع اللوحة حتى صارت ثماني ساعات يوميًّا، وحتى الآن أنجزتُ ما يُقاربُ خمسين لوحة، وصرتُ أرسم على قماش وكنفاس مستخدمًا ألوان الاكريليك والزيت».
الأفكار والمعاني
لم تكن الأعمال الأولى لعُقبي مركّزة في أفكارها، كما كانت تأتي محمولة على جرعة من السريالية تقنيًّا، إلا أنها بدأت تتطور موضوعيًّا وتقنيًّا، وبشكل تدريجي، وما زالت، حتى الآن، تنضج، وكما يقول فإنّ «هذه اللوحات بدأت تأخذ موضوعاتها أشكالاً ومعاني مختلفة عن اللوحات الأولى، التي كانت تأتي متعددة الموضوعات والمعاني، محمولة على أفكار ومشاعر غامضة ومبهمة وغير متاحة للتفسير، لكن بعد ذلك، بدأَت اللوحات تتشكل في ذهني قبل الإمساك بالفرشاة، وعندما أرسمُ تكون اللوحة في ذهني. صحيح لم أكن أضع مخططًا أوليًّا على الورق، لكني كنتُ أرسم واللوحة في ذهني عكس التجارب الأولى. كما صارت اللوحة تتشكل معي وأنا أرسم حيث تتفاعل الأفكار والمعاني والألوان والأشكال؛ فتخرج اللوحة مدهشة لي أولاً».
تقنيًّا لم يكن سهلاً على تجربة كتجربة عُقبي، أنْ يتكيف سريعًا مع استخدام الفرشاة والألوان وتقنيات الفن التشكيلي المختلفة؛ وكما يقول فإن «الإمساك بالفرشاة والتعامل بها لم يكن يسيرًا خاصة وأنا لستُ دارسًا للفن التشكيلي، وإنْ كانت لي قراءات وكتابات عديدة في هذا الفن، لكن هنا تشكّلت رغبة وبدأ حلم يتبلور حتى وصلتُ للاشتغال والرسم على القماش بأدوات احترافية، وعلى مقاسات مختلفة، وكانت اللوحة، في كلّ مرة، تفرضُ عليّ تحديًا ما، وكنت أصرّ، في كل مرة، على تجاوز التحدي، وأقتربُ أكثر من اللوحة، لكن حتى الآن ما زال لا يوجد تخطيط مسبق للوحة… صحيح توجد فكرة معيّنة أريد تحقيقها وتنفيذها والتعبير عنها، لكن بعد الانتهاء من اللوحة أقف متأملاً مندهشًا مبتهجًا مما خَرَجتْ عليه».
التشكيل والسينما
ما زالت اللوحة تُمثل بالنسبة لعُقبي نافذة للبوح عمّا يعتمل في داخله، وما يشهده في منامه وصحوه، وهي في الأخير تجربة في طور النضج والتطور، وهو مستمر في الاشتغال على تطويرها والعمل على أدوات أكثرُ احترافية وحساسية وحذرًا، كما يقول.
المتأمل في هذه اللوحة سيلاحظ، بلا شك، ثمة تأثيرًا لتجربة عُقبي في السينما الشعرية حاضرًا في علاقته برسم المنظر؛ فالغموض والاشتغال على المخاوف والأحاسيس العميقة والتصورات والمفاهيم الذهنية حدّ إغلاق اللوحة يعكس مدى تأثير تجربته السينمائية في لوحته التشكيلية.
«من الطبيعي أن تكون هذه التجربة هي امتداد لتجربتي السينمائية الشعرية؛ فما نراه في هذه اللوحات هو هروب من إنتاج معانٍ محددة، فأنا بلا شك أُمارس فيها لعبة إخفاء المعاني، وربما هي عملية تفاعلية بين الداخل والخارج والوعي واللا وعي؛ لذا أحرصُ على إخفاء المعاني في حال كانت محددة، وأحاولُ تلمّس اللا مرئي وأُشكله بطريقة معيّنة مع حرصي على عدم تقليد أيّة تجربة؛ فكل الصور التي تتشكل من خلالها لوحاتي مصدرها إحساسي، وجاءت من اللا وعي واللا شعور، ولهذا تخرجُ بنوع من البدائية، كما عبّر أحد الأصدقاء، وهذا أمر طبيعي؛ لِأنني أمارس التشكيل لِأول مرة وأمارسه بين اللذة والرغبة وبين الإفصاح عن الحلم وإخفاء المعنى؛ فأخاف أنْ تحملُ اللوحة ما يفضح مشاعري، وربما هي مشاعر الخوف والقلق الناجم عن عزلة الوباء وله صلة، بلا شك، بما يعيشه بلدي اليمن من مخاوف الموت والحرب… وأساطير وسحر اليمن أيضًا لها تأثيرها… وكلها بدأت تُفصح عن ذاتها، وبدأت تتشكل في كلّ لوحة»، يقول.
بعد شهرين من الاشتغال التشكيلي يشعر عُقبي أن ثمة بصمة لخصوصيته بدأت تتشكل في أعماله؛ وهو ما يحتاج إلى اهتمام يُعزّز من الحضور والفاعلية تقنيًّا وموضوعيًّا؛ وهنا لا بدّ أنْ يستمر ولا ينقطع؛ وهنا يؤكد، في حديث عبر البريد الإلكتروني، أنّ تجربته مع اللوحة لن تتوقف وستستمر بجانب تجربته السينمائية، «وسأظلّ أرسمُ حتى بعد فترة الوباء، وتَصوّر معي لذةً ولدت لدي بعد عمر الأربعين تحت عزلة الوباء… بالتأكيد هي لذة جميلة تعززها رغبة وتجربة لن تتوقف مع الرسم، وستستمر بعد الوباء حتى تنضج فنيًّا وموضوعيًّا».
ولحميد عُقبي ثمانية أفلام قصيرة ومتوسطة، و27 كتابًا منشور إلكترونيًّا وورقيًّا في النقد السينمائي والأدبي، ومجموعات قصصية ونصوص مسرحية.
تعليقات