وجدي الأهدل*
لكي تنشأ حضارة في مكانٍ ما، تحتاجُ هذه الحضارة إلى حاضنة على الأرض مساحتها الجغرافية لا تقل عن عشرة كيلومترات مربعة، وأنْ تكون محمية من القلاقل والنزاعات لفترة زمنية لا تقل عن مائة عام.
لقد نشأت الحضارة الإسلامية وازدهرت في حيزٍ جغرافي محدود، وتمتع هذا الحيز بالحماية النسبية لفترة زمنية تمتد لحوالي خمسة قرون. هذا الحيز هو مدينة بغداد التي تأسستْ في عام 762 م، وظلت تتمتع بالحماية النسبية من الحروب المدمرة حتى الغزو المغولي في عام 1258م. وعلينا أنْ نُلاحظ أنه عندما دمرت هذه الحاضنة الحضارية، انطفأت شعلة الحضارة الإسلامية، وكفت عن الإشعاع إلى أجل غير مسمى.
كذلك نلاحظُ أنّ الاستقرار على مدى خمسمائة عام الذي حظيت به بغداد، منحها لقب “مدينة السلام”، وهو لقب ذو دلالة واضحة، ويؤيد الفكرة التي نذهب إليها: إنّ الحضارة هي نتيجة لحقبة طويلة من السلام.
عندما نفكر في الحضارة الغربية التي تتسيد العالم في وقتنا الحاضر، نلاحظ أن هناك عدة مراكز حضارية، لكن المركز الأقوى الذي تدين له البشرية بما وصلت إليه من تطور يقع في بريطانيا، ومدينة لندن تحديداً.
لقد ساهم الموقع الجغرافي الحصين للجزر البريطانية في حمايتها من الغزو الخارجي لمدة زمنية طويلة جداً، تُقدر بحوالى ألف عام – آخر غزو تعرضت له بريطانيا حدث في عام 1066م- فأدت هذه المصادفة الجغرافية السعيدة إلى نمو الحضارة المطرد، والتراكم العلمي والثقافي الذي تمتع بثماره البريطانيون بداية، ثم البشرية جمعاء لاحقاً.
لدينا مثال محلي يؤكد صحة هذه النظرية، ألا وهو مدينة عدن، فقد احتل الإنجليز مدينة عدن لمدة 128 عاماً (1839- 1967)، وقد وفرت البنادق والمدافع الإنجليزية الحماية للمدينة من الحروب والغزوات الداخلية، فتحولت عدن إلى حاضنة للحضارة والمدنية والحداثة. وتلقائياً انتشرت أنوار الحضارة من عدن إلى جميع مناطق اليمن، بل ووصل إشعاعها الحضاري إلى الدول المجاورة في الإقليم.
أدت الحرب التي اندلعت في عام 1986 إلى تدمير غلاف الحماية الذي تمتعت به عدن خلال حقبة زمنية طويلة، ففقدت تميزها كحاضنة حضارية وثقافية، ومنذ ذلك التاريخ لم تعد المدينة حاضنة مناسبة للنشاط الحضاري والتراكم المعرفي.
مدينة صنعاء تصلح أن تكون حاضنة للعلم والعلماء والنخب المثقفة، أيّ ما نطلق عليه باختصار شديد “الحضارة”. ولكن الموقع الجغرافي الرديء للمدينة، كونها محاطة بالقبائل المحاربة، لم يسمح لها مطلقاً أن تتحول إلى حاضنة للحضارة ولا في أيّ عصر من العصور الوسطى أو الحديثة مع الأسف.
لكي تنشأ وتنمو وتتطور الحضارة في اليمن، نحن نحتاج إلى حاضنة تتوفر لها أقصى درجات الحماية، مساحتها محصورة في عشرة كيلومترات مربعة، وتحظى بالسلام والاستقرار والأمان، وبالتدريج سوف تتمكن هذه الحاضنة من إقناع اليمنيين العائشين خارجها بإتباعها في قوانينها، واتخاذها أنموذجاً في التعليم والاقتصاد والثقافة.
تبدو اليمن في وقتنا الحاضر مثل سيارة معطلة، محركها مفقود، وهي بحاجة إلى تركيب محرك جديد لتشتغل، وتتمكن من السير واللحاق بالعالم، وهذا المحرك الذي يبحث عنه الجميع يتلخص في مشروع “مدن السلام”.
يمكنُ البدء بمدينة واحدة، ثم وفق مخطط مدروس، تلحق مدن يمنية أخرى بمشروع “مدن السلام”.
ومن البديهي أنْ يتم اختيار “مدن السلام” في مواقع بعيدة عن نفوذ القبائل المحاربة، سواءً في الشمال أو الجنوب، مثل الجزر، أو السهول الساحلية.
لن تكون أية مدينة من “مدن السلام” عاصمة بديلة لليمن، لأنّ هذا إن حدث، سوف يجعلها مستهدفة دائماً من القوى المتصارعة على السلطة.
“مشروع مدن السلام” يهدفُ إلى خلق موطئ قدم للنخب المثقفة بعيداً عن الصراع السياسي الأزلي المشتعل بين القبائل المحاربة.
ما هي القوانين التي تنظم الحياة العامة في مدن السلام؟ القانون الأول هو إلغاء العرف القبلي، والعمل بالقوانين المدنية فقط. القانون الثاني هو منع حمل السلاح الناري أو الأبيض. القانون الثالث هو منع أيّ نشاط سياسي. وبالتأكيد سوف تكون هناك العديد من القوانين واللوائح التي تُنظم شؤون الحياة العامة في مدن السلام.
سوف تتميز مدن السلام بما يلي:
الجامعات والتعليم العالي، المكتبات العامة، مراكز الأبحاث، المتاحف، دور السينما والمسرح، دور النشر، استوديوهات التصوير، مجمعات الفنون، الأندية الرياضية.
يفضل أن تخلو “مدن السلام” من النشاط التجاري العالي المستوى، مثل المصانع. وعلى العكس يمكن تشجيع الصناعات اليدوية وتوطينها داخل “مدن السلام”.
كذلك يفضل أن تخلو “مدن السلام” من المستشفيات ذات الطابع الاستثماري، ولا يسمح إلا بالعيادات، ومستوصفات صغيرة الحجم ملحقة بأقسام كليات الطب.
سوف يمنع تماماً دخول القات إلى “مدن السلام”، وسوف تفرض عقوبات مالية قاسية على متعاطي القات والمتاجرين به.
سوف يكون من مهام “مدن السلام” أن ترفد اليمن برياضيين ممتازين، في الألعاب الجماعية والألعاب الفردية، ويفترض أن توفر كل مدينة من “مدن السلام” البيئة المناسبة للرياضيين، من حيث الملاعب والصالات الرياضية، والعطاء المادي المجزي ليتفرغ اللاعب للتدريب.
من مهام “مدن السلام” توفير البيئة المناسبة للإنتاج الأدبي والفني، بحيث تتجلى الإمكانات الإبداعية الضخمة لليمنيين في مجالات الأدب والفكر والرسم والنحت والموسيقى والغناء، وعن طريق القوانين المشجعة للإبداع سوف تتمكن هذه المواهب من تطوير مشاريعها الفنية في أجواء داعمة، وبالتالي منح اليمن المكانة العليا التي تستحقها في الآداب والفنون.
سوف تتميز “مدن السلام” بقوانين صارمة بشأن نظافة الشوارع والأماكن العامة، وسوف تفرض غرامات مالية رادعة ضد الأشخاص الذين يلوثون البيئة، أو يخرقون قواعد النظافة، بحيث تبدو “مدن السلام” في مظهر جمالي حسن، وتضاهي مدن العالم المتقدم في نظافة شوارعها.. وعندما تنجح هذه الإجراءات، فإنه من المتوقع أن تحذو المدن اليمنية الكبرى مثل صنعاء وعدن حذوها، وتحاول الاستفادة من تجربتها.
سوف تتميز “مدن السلام” باجتذاب الكفاءات اليمنية العلمية، وتوفير ميزانيات للبحث العلمي، ودفع رواتب عالية للعلماء والباحثين، وتوفير البيئة الآمنة لهم، ليتابعوا أعمالهم البحثية والعلمية في أجواء مريحة مادياً ومعنوياً.
سوف تفرض “مدن السلام” قوانين مشددة بشأن الإقامة فيها، وتصطفي النخب العلمية والثقافية والرياضية للإقامة فيها، بحيث تستفيد هذه النخب من البنية التحتية والإمكانيات المادية المخصصة لها، لكي تعمل على تطوير مسارها الإبداعي والفكري والرياضي.
سوف تفرض “مدن السلام” على طالبي الإقامة فيها نوعاً من التأهيل القانوني، يتمثل في دورة دراسية لفهم واستيعاب قوانين مدن السلام، ثم التوقيع على عقد إقامة محدود بمدة زمنية، وسوف يمنح كل مقيم سجلاً مدنياً رقمياً، يعمل بنظام النقاط، بحيث قد يحرم من تجديد عقد الإقامة كل من يخرق القوانين ويسجل نقاطاً متدنية.
سوف تُحرِّم “مدن السلام” السلوك المثير للنزاعات المناطقية والمذهبية والانتماءات القبلية والسلالية والطبقية، بالقول أو بالفعل، وسوف تُعاقب بالطرد كل مقيم يخالف قوانين المساواة والأخوة الإنسانية.
سوف تمتلك “مدن السلام” قوانين إنسانية متقدمة، فيما يتعلق بالتسامح الديني، والحريات الشخصية، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، وحرية التعبير.
سوف تحذو “مدن السلام” في قوانينها تلك القوانين المدنية المعمول بها في البلدان المتقدمة، مثل ألمانيا وبريطانيا وسويسرا.
سوف تمنع “مدن السلام” إقامة القواعد العسكرية، ولن يكون مسموحاً للعسكريين دخول هذه المدن، تحت أيّ ظرف من الظروف، حيث ستكون مدناً محرمة عليهم.
سوف تمتلك “مدن السلام” جهاز شرطة مهني، ومؤسسة قضائية على درجة عالية من النزاهة والحرص على تطبيق القوانين، وسوف تعمل هذه المؤسسة بقوانين مدنية، لا تحمل هوية دينية أو مذهبية أو ذات صلة بالأعراف القبلية.
سوف تخلو “مدن السلام” من أجهزة المخابرات وفروعها.
سوف يتولى إدارة “مدن السلام” مجلس استشاري، يتكون من عشرة مستشارين، ويحمل حاكم أو حاكمة المدينة لقب “المستشار الأول”. ومن مهام المجلس الاستشاري مراقبة تطبيق القوانين، والنظر في التشريعات المستجدة وإجازتها.
“مدن السلام” لست ملاذاً لرجال الأعمال، أو حاضنة للأعمال المالية والتجارية، إنها ملاذ للكفاءات العلمية والثقافية والرياضية، وحاضنة للنشاط الفكري والإبداعي والفني والرياضي.
سوف تسمح “مدن السلام” بنشاط تجاري محدود، وتُقنن تصريحات البنوك والشركات العاملة إلى الحد الأدنى، وسوف تُشجع حضور الشركات ذات الطابع الإبداعي والفني.
عندما يتم تطبيق مشروع “مدن السلام” على أرض الواقع، فإنها ستحمل بذور المدنية والحضارة والثقافة إلى مدن ومناطق اليمن الأخرى، وسوف يحدث بطريقة سلمية التغيير الإيجابي الذي يسعى إليه أصحاب الضمائر الحية في هذا الوطن.
السوابق التاريخية:
ليست فكرة “مدن السلام” بالجديدة، بل هي قديمة قدم التاريخ اليمني، وكانت هذه المدن تعرف بـ”الهِجْرة” أي المدن والقرى التي فيها مراكز للعلم والتعليم.
يذكر العلامة مطهر علي الإرياني في كتابه المعجم اليمني ما يلي:
“التهجير في العادات الاجتماعية: منح فئة أو أسرة في محيطها خصوصيات معينة، مع اتصافهم بصفات معينة مما يجعلهم (هجرة) مهجرين، وتجعل بلدتهم (هجرة) مهجرة. فأما ما يمنحون من الخصوصيات، فأهمها: الإعفاء من العَشْر ومن الحشر، فلا يشاركون في غرم من الأغرام، ولا في حرب ولا في سخرة، وقد تعفيهم الدولة من الجباية بجعل زكاتهم إليهم يجرونها من تحت أيديهم، ولا يحشرون أو يحشدون مع من يحشد من أبناء منطقتهم لعمل أو لحرب، إلا من تطوع منهم. كما يمنحون احتراماً في المحاضر الاجتماعية تقديراً وتكريماً. وأما ما يتسمون به من صفات ليكونوا هِجْرة فهي التفقه في الدين، ومعرفة الأعراف والتقاليد الاجتماعية ليكونوا مرجعاً للناس في أمور دينهم وفي نزاعاتهم وأحوالهم الشخصية، مع التقيد بالسلوك الحميد، وببعض المظاهر في الملبس ونحوه، ويكون منهم فقهاء، بل وعلماء، ويقومون في هجرتهم، أي بلدتهم بالتدريس وتعليم الطلاب من المقيمين والوافدين. وأما كون بلدتهم أو ديارهم مُهَجَّرة، وتسمى (هِجْرة) فإن ذلك يعني ألا تُغزى ولا تتعرض لمعرة جيش أو قوم، وألا يسفك فيها دم أخذاً لثأر”. ج2 ص 1050. وللاستزادة يمكن الرجوع إلى كتاب “هجر العلم ومعاقله في اليمن” للقاضي إسماعيل الأكوع.
وهذه اللمحة التاريخية تشير بوضوح إلى أن عقلاء اليمن منذ أقدم الأزمنة، تنبهوا إلى خطر اندثار العلم والتعليم في اليمن، بسبب القلاقل والحروب، فابتكروا هذا التقليد الفريد من نوعه في العالم العربي والإسلامي، في محاولة مستميتة لإبقاء شعلة العلم والتنوير مضيئة مهما اشتدت المحن والخطوب.
وما مشروع “مدن السلام” سوى استمرار وتطوير لهذه التقاليد القديمة العظيمة الفائدة. ونحن في هذا الجيل علينا التقاط الخيط، وإنشاء خريطة جغرافية جديدة لهجر العلم الجديدة في اليمن.
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات