جيمس زغبي*
الأسبوع الماضي، زعم توم فريدمان في مقال مطول نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» أنه كان بوسع «حماس» أن تحوّل غزة إلى مدينة مزدهرة، لو أنها اتخذت الخيارات الصحيحة والمناسبة في 2005. لستُ هنا بصدد الترافع عن «حماس»، فقد تسببت سياساتها في آلام كثيرة للفلسطينيين، لكن حجة فريدمان، وهي حجة يدفع بها آخرون أيضًا، خيالية ومتجاهلة للتاريخ لدرجة تستوجب الدحض والتفنيد.
الحقيقة أن أسباب افتقار الأراضي الفلسطينية إلى التنمية تعود إلى ما قبل عشرة أعوام من الانتخابات التاريخية التي جرت في 2005، والتي أسفرت عن وصول «حماس» إلى السلطة. وقد كنت شاهدًا على هذه الكارثة وهي تحدث في الزمن الحقيقي. ولئن كان الفلسطينيون ليسوا من دون أخطاء، فإنه من الإجحاف إلقاء اللوم عليهم وتحميلهم مسؤولية السياسات الإسرائيلية التي ألحقت الضرر بالاقتصاد الفلسطيني.
فخلال الفترة الممتدة من 1993 إلى 1996، شاركتُ في رئاسة «بناة السلام»، وهو مشروع أطلقه نائب الرئيس الأميركي آل غور لدعم الاستثمار الأميركي في الأراضي المحتلة، كما ترأستُ جلسة «قمة الدار البيضاء الاقتصادية» في 1994 حول الاقتصاد الفلسطيني، وسافرتُ إلى المنطقة مع وزير التجارة «رون براون»، وقدتُ وفودًا من قادة قطاع المال والأعمال الأميركيين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة لتعزيز الشراكات التجارية.
وكما لاحظت دراسةٌ أنجزها البنك الدولي، فإن القطاع الخاص الفلسطيني كان يمكن أن يكون محركًا للنمو لو تمكن من تأمين الاستثمار والاشتباك في التجارة مع العالم الخارجي بحرية. وإذا كان توسيع الفرص الاقتصادية وحده لن يحقق السلام، فمن دونها سيكون السلام مستحيلاً.
كانت الزيارات الأولى لوفدنا إلى المنطقة مفعمة بالأمل، وكانت شركات أميركية بارزة معجبة برجال الأعمال الفلسطينيين الذين التقت بهم، وأُبرمت بعض الصفقات. غير أنه في الأشهر التي تلت ذلك، أصبح من الواضح أن إسرائيل لا ترغب في السماح للفلسطينيين أو شركائهم الأميركيين باستيراد المواد الخام أو تصدير المنتجات النهائية من دون مراقبة إسرائيلية أو وسيط إسرائيلي، ونتيجة لذلك انهارت الصفقات.
وذات يوم، تلقيتُ مكالمة هاتفية من مسؤول بوزارة الزراعة الأميركية أخبرني فيها بأن شحنة أميركية تتكون من 50 ألف بصيلة زهور إلى غزة ظلت تنتظر التصريح الإسرائيلي لفترة طويلة فتلفت البصيلات. ذلك أن إسرائيل لم تكن ترغب في أي منافسة لصادراتها من الزهور. وقد كان لدى وزارة الزراعة تمويلات كافية لشحنة أخرى، لكنها أبت المجازفة بالإنفاق من أجل نتيجة مماثلة.
وفي 1995، بعثتُ للرئيس بيل كلينتون مذكرة مطولة وأدليت بشهادتي مع زملائي في مشروع «بناة السلام» أمام لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، وأوضحتُ بالتفصيل العوائق الإسرائيلية أمام الاستثمار والنمو الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية.
فأشرتُ إلى أن الوضع، بعد أقل من عامين من اتفاق أوسلو، أصبح مزريًا. ذلك أن إغلاق إسرائيل للأراضي الفلسطينية وفرضها نقاط تفتيش داخلية عبر الضفة الغربية، عقب المذبحة التي ارتكبها «باروخ غولدشتاين» ضد المسلمين في المسجد في الخليل، كان قد أضر كثيرًا بالدعم الفلسطيني للسلام، كما كانت المستوطنات في ازدياد، وكذلك البطالة بين الفلسطينيين، إذ ارتفعت من أكثر من ثلث القوة العاملة في الضفة الغربية إلى ما لا يقل عن 62 في المئة في غزة.
ومتحدثًا عن غزة بشكل خاص، لفتُّ إلى ما يلي:
«على الرغم من وعود المجتمع الدولي، إلا أنه لم ينطلق أي مشروع بنية تحتية لخلق فرص العمل… وبدلاً من تقدم حقيقي، لم يحصل الفلسطينيون سوى على مراقبين ودراسات وتعهدات ووعود لم يتم الوفاء بها ولوم».
«إن الشباب الفلسطيني لا يرغب في شيء أكثر من الحصول على وظيفة، وعيش حياة ذات معنى، وإنشاء أسرة، ورؤيتها تزدهر. أما غضبه، فيعزى إلى اليأس، الناتج عن الخوف والإحباط من عدم وجود مستقبل لهم. ولهذا، فإذا كان يراد للسلام أن يبقى، فعلينا أن ننكبّ على معالجة هذه الأزمة بكل الموارد والقدرات التي لدينا حتى نُظهر للفلسطينيين أن وعد السلام قابل للتحقيق».
وطلبنا تمكين القطاع الخاص الفلسطيني من تأمين الاستثمارات، والضغط على إسرائيل للسماح للشركات الفلسطينية بالاستيراد والتصدير، وتوجيه أموال المانحين الدوليين إلى مشاريع خالقة للوظائف. ومن جانبه، أشار زميل لي من مشروع «بناة السلام» إلى أن مسؤولية تحقيق ذلك تقع على عاتق الولايات المتحدة وإسرائيل، وليس الفلسطينيين.
وعلى الرغم من دعم الرئيس كلينتون وأعضاء مجلس الشيوخ، إلا أن التوصية التي أوصينا فيها بالضغط على إسرائيل قوبلت بالرفض من قبل «فريق السلام» في الإدارة، بدعوى أن من شأن ذلك أن يعيق مفاوضاتهم.
حدث كل هذا في التسعينيات، وليس في 2005. والحقيقة هي أن «حماس» لم تخلق الوضع الصعب، بل ورثته واقتاتت بمشاعر اليأس التي خلقتها سيطرة إسرائيل الخانقة وإهمال الولايات المتحدة وإذعانها. ولا شك أن «حماس» أساءت تدبير الأمور، ولكن فشل غزة في التحول إلى سنغافورة، التي كان ياسر عرفات يعتبرها بمثابة البوصلة التي سيسترشد بها، أو دبي، لم يكن له علاقة بخيارات «حماس» بقدر ما كانت له علاقة بأولئك الذين خذلوا الفلسطينيين والسلام.
* رئيس المعهد العربي الأميركي – واشنطن
تعليقات