عبدالله الصعفاني*
أتفق تمامًا مع القول بأن كل عام لا يكون سيئًا أو جميلاً بقوة دفع زمنية ذاتية، وإنما يكتسب صفته من طبيعة ما شهده من مسرات وملمات.
ولقد كان العام المنصرم 2022 في خواتيمه بالنسبة للمشهد الوطني والثقافي والإبداعي اليمني والعربي بائسًا، بصرف النظر عن النسق الفكري لمن تلقوا خبر رحيل الشاعر والأديب الكبير الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح.
ولأنه هرم يماني مختلف مرت أربعينية الدكتور عبد العزيز وما بعدها وجميع محبيه ما زالوا واقعين تحت سكاكين الرحيل الحزين.
* شخصيًّا وجدتُ نفسي عاجزًا في مسعى الكتابة عنه، حيث أصر العجز على عدم مداراة نفسه، صارخًا بالشعور واللا شعور: إنه الدكتور المقالح الذي يجعلك تتلعثم في مسعى البوح بالوجع، وفي نفس الوقت تعجز في مداراة ما تشعر به حتى لوكنت في زنزانة لا تعرف موعد خروجك إلى الحياة.
* ولقد توكلت على الله وأخذت القلم وعدت ذلك الكائن الورقي في الكتابة، بعد أن كنت قد أقلعت عن ذلك بقوة الانتماء المتأخر إلى الكتابة الإلكترونية.. فهل كانت الكتابة هذه المرة بالقلم والورقة حنينًا لرائحة الحبر وكشكشة الورق، أم استحضارًا لروح وطريقة الدكتور المقالح عندما كان يكتب أفكار يومياته المتقدة بالعظمة على ورقة بخط صغير لا بد أن يعود إليه ناشر يوميات صحيفة الثورة في بروفة مطبوعة تسبق موافقة الدكتور على النشر..؟
أميل في إرجاع ذلك لإحساسي بالتلاشي أمام عظمة المقالح حيًّا وميتًا.
* وأواصل من حيث يكون الاعتراف بأنه ليس في الذي سيكتبه أكبر كبير إثبات قيمة مضافة في رحيل هذا الأديب العظيم؛ لأنه كما كان قامة وقيمة وهامَة وهمّة في الحياة سيبقى قامة وهامَة بعد موته شأن عظماء كبار في هذا العالم… فالدكتور المقالح قد ترك ما يخلّد تجربته وعظمة مآثره، والتي تتجلى في ما خلّفه من مشاريع وكتب وأبحاث وكتابات مختلفة، علاوة على أسماء كثيرة وكبيرة في مجالات مختلفة كان خلف نجاحها الدكتور المقالح… علاوة على إسهاماته في الحركة الوطنية اليمنية وتثوير حركة التنوير والتعليم في بلاده.
* للشباب تحديدًا، حيث ميدان نشاطي في الصحافة والكتابة أقول..
لو لم يكتب المقالح إلا الأبيات الشعرية (سنظل نحفر في الجدار) ومعها مغناة (صنعانية مرت من الشارع غبش) لكان ذلك كافيًا لأنْ تشعروا بأنكم فقدتم شابًّا عظيمًا غادر الحياة وهو في الخامسة والثمانين من عمر يتوقد أملاً، ويتوهج شبابًا وعاطفة.
* وفي العادة، عندما يخطف الموت العظماء، فإنهم يموتون قبل أن يقولوا للأجيال الجديدة كل ما يعرفونه إلا المقالح.. لقد قال وقال.. وما لم يقلْه كشف عنه بين سطور الكتابة وثنايا الكلام، حتى صح بأن للمقالح صفة العمومية الأدبية والإنسانية وخصوصية اسمه الكبير العابر للأوطان.
* في ميادين التجليات الأدبية التي تلمع بين دفات عشرات المؤلفات لن يخطئ القارئ المتذوق طريق الوصول المتجدد إلى أن الدكتور المقالح كان يعزف شعره بصورة تناسب ذوقي وذوقك وذوقهم، وليس ذوقه فقط… بل كان يتدفق إنسانية في رؤاه الشعرية، مستوعبًا خلالها تراثًا زاخرًا، وفي ذات الوقت متمكنًا من إطلاق العنان للكلمات في رسم صورة جديدة والتعبير من خلالها عن قضايا كبيرة تجدد علاقته بالقصيدة، وعلاقة القصيدة بالحياة والمجتمع والإنسانية من حوله.
وليس ذلك إلا جزء من فضاء إبداعي لقامة أدبية ممتلئة تنسجم مع قاعدة لا تشوش على رأي الآخر، وإنما تصل إلى الجميع على قاعدة العدل والنزاهة.
* كان للدكتور المقالح، رحمة الله عليه، أسلوبه الخاص وهو يتحدث خلف المايكرفون في حوار أو ندوة أو احتفال، رغم أنه قادم من بدايات إذاعة الثورة السبتمبرية وبياناتها.. لسانٌ هادئ وطرح متوازن وإبهار ناضج متوقد وكأن غربالاً يسبق خروج الكلمة والفكرة إلى ذهنية المستمع.
وذلك ليس بغريب عنه، وقد ظلت القراءة والكتابة عملاً يوميًّا في غمار انشغالات وطنية وعلمية وأكاديمية وإبداعية واجتماعية… تتساءل معها عن القدرة التي تسند هذا التنوع الذي استمر لعقود طويلة.
* عندما تسافر خارج اليمن ويراودك التفكير بإمكانية البحث عن فرص للهجرة هربًا من ضيق الحال، وتقنع نفسك بالعدول عن الفكرة، فتتذكر معنى أن المقالح رفض مغريات السفر لعقود من الزمن حتى للضرورة العلاجية، وهنا لا بد أن تتلقى درسًا ومثلاً في المحبة للأوطان.
على الرغم من أن المقالح سبق له السفر، وجاب عواصم كثيرة في أرجاء العالم، إلا أنه وصل إلى مرحلة اكتفى بعلاقته الوارقة بمدنية صنعاء وحبه لوطنه.
لا يمكنك أمام أسئلة الغير عن المقالح إلا استنطاق حقيقة أن من حسن حظك أن يكون المقالح من بلادك.
* وسواء كنت على اتصال بالدكتور المقالح أو تتابعه عن بُعد، فإن رحيل المقالح سيجعلك تعيش إحساس يوم موته الذي تقطعت أمامه نياط القلوب حزنًا على رحيل أديب تجسدت عظمته في رعاية الفكر وتشجيع الإبداع من خلال موقعه على رأس جامعة صنعاء، أو إشرافه على مركز الدراسات والبحوث والمجمع العلمي اللغوي اليمني حتى وفاته… وتلك ليست سوى عناوين لإسهامات جليلة.
وأيضًا تأكيده الفعلي على القيمة الإبداعية لأجيال ازدانت مؤلفاتهم بمقدمات الدكتور المقالح الذي طالما حرص على الوقوف المساند لكل قيمة أدبية وإنسانية بكل حماسة وتواضع… وقد ترك أسماء كثيرة ممن أخذ بأيديهم، وقدّمهم ووضعهم على طريق النجاح.
* كتب الدكتور المقالح للصحف والمجلات اليومية والأسبوعية، فظهر كاملاً عندما يتفاءل وحتى عندما يقول بأننا لسنا بخير، دون أن يفلت منه زمام البقاء في عالمه الشعري الجمالي الإنساني، لأن الأستاذ كان يختار الكتابة بعناية تجعله يضيف ويدعو لإدراك بأنه عند النزاع والصدام لن يكون هناك فائز.
* كل من قرأ للدكتور الكاتب وركز على فهم شيء مما يكتبه سيلاحظ كيف هي الكتابة عندما تنطلق من حروف وأفكار قادرة على غسل الزمن بنداء البصيرة، ولغة الخصوبة، وأنفاس الأهل على ذرات تراب وطن منكوب ببعض ناسه.
* ويبقى القول.. هو مصاب جلل أن يفقد اليمن والعالم العربي والإنسانية شاعرًا وأديبًا وعالمًا بمكانة المقال.. ونعم، التاريخ لا يعود.. لكن العزاء يبقى في حقيقة أن ذاكرة التاريخ ستبقى مضيئة بما تركه الراحل العظيم من الإرث.
رحم الله الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح.. ورحمنا من بعده.
* كاتب يمني.
تعليقات