عبدالباري طاهر*
الرواية أو السردية الكبرى عن ريف إب في سبعينيات وثمانينيات وشطرًا من تسعينيات القرن الماضي تنطوي على سرديات كاثرة.
رواية عقلان تؤكد أنّ من لا يعرف إب وتعز وريفهما لا يعرف اليمن، فهاتان المدينتان وريفهما في قلب اليمن، وهما يعكسان بيئة وطبيعة المجتمع اليمني المتنوع والمتعدد والمختلف والمتفاوت في نموه وتطوره، شأن المنطقة العربية كلها.
في سردية عقلان يندغم أو يتساوق فيها الزمان والمكان، والوقائع والأشخاص في صور لا تميّز بين الواقعي والمتخيل، فما تراه واقعًا ممزوجًا بالخيال، والمتخيل واقعي.. إنها صيغة إبداعية مدهشة يختزلها السارد في ملاحظة له في السطر الأخير من الصفحة قبل الأخيرة: “هذا عمل أدبي خالص: أحداثه، وشخوصه، وأبطاله.. مكانه، وزمانه من وحي الخيال”.
ولعل السارد خشي المساءلة، وما أكثرها، وأقصاها عن مفردات رواية في زمن شديد الحساسية، وأماكن صراع خطرة، وسلطة، أو بالأحرى سلطات لا ترحم.
زرت إب كثيرًا، وزرت العديد من قراها وجبالها وغيولها، وعاشرت المئات من أبنائها، ولكني عرفتها أعمق وأكثر من خلال رواية عقلان، فإذا ما قرأت المكان في الرواية، وهو مكان واقعي متخيل ومرموز في آن، فالقرى المرموزة: الجاهزة، الخائنة، جبل الرياح، طريق العروض، عقبة القاضي، الرمضاء، عزلة حجر، جبل الصفح، دار الصوفي شرقًا، وقرية الصانع غربًا، زاوية الضباب شمالاً، وهيجة الزاهر، وجبل الشافي، كلها قرى وأماكن من ريف المدينة إب، وهي القرى والأماكن، والجبال والوديان التي تجري فيها الأحداث المفرحة والمحزنة، المبكية والمضحكة في آن.
إنها سيرة حياة أبناء إب بقراها العديدة، وريفها الخصب، وملحمة كفاح أبنائها الطيبين ضد الإفقار، والتجهيل، والتقتيل، فالرواية عقلان سيرة حياة إب وأبنائها المكافحين، وشخوص الراوية: الشخصيات الرئيسية: الشيخ عماد، وعمر عقلان، وجدة عزيز، وعزيز، وفائزة، ويوسف المشاء، وهزاع – تاجر الذهب، وقادرة – زوجة عماد، والصوفي، ومرام، وحياة، وهديل، وحوبان القاتل، وعبدالغني – المناضل الناصري المعتقل، وبهجة – ابنة الشيخ، صاحبة الأسنان الذهبية التي انتزعها الصوفي وقتلها، وهناك شخصيات كاثرة يبرز السارد سيرة وموقع كل واحد منهم ومنهن في سياق إبداعي ممتزج فيه النثري بالشعري، والخيال بالواقع.
البطولة في الرواية موزعة على الشخصيات الرئيسية: عماد، ويوسف، والصوفي، وعبدالفتاح، والبصير، وبهجة، ومرام، وهديل، والمعتوه، وعبدالغني المختفي قسريًّا، وحياة المزيّنة التي تقوم بختان النساء، وتسببت إلى جانب أخريات في وفاة الكثير من المختونات، وكان الصوفي هو الدافع والمستفيد، فالبطولة في الرواية موزعة بين رقيّ اللغة وشاعريتها، وبين امتلاك الرؤية الواعية والناضجة لطبيعة البيئة الزراعية شديدة التخلف والركود، والتي تشهد أحداثًا جسيمة بسبب ضعف الدولة، وفساد أجهزتها والنافذين، وصراع الشمال والجنوب، وظهور الجبهتين الوطنية الديمقراطية، والجبهة الإسلامية، وسطوة القبائل والعساكر.
وللرصد الدقيق والتناول المتسم بالحياد والنزاهة للأحداث نصيب من بطولة التوثيق للأحداث بما فيها الآثار الكارثية لزلزال 1982، فالبطولة لا وجود لها في صيغة المفرد.. إنها مفهوم أوسع من ذلك بكثير، كما يرى الناقد فيصل دراج.
من سرديات الرواية الكاثرة تكونت ملحمة عقلان، فقصة أسرة المستبد الشيخ جابر، وبزوغ نجم ابنه أحمد عماد الدين بتفرعاتها واتجاهاتها المختلفة كانت البداية، وبروز عمر عقلان بمسلكه القيم، واتجاهه العقلاني، وأنموذجه المستنير، والموزع بين الشمال والجنوب، والمرتبط بالجنوب أكثر أساس في السردية الكبرى، وثاني أحداث الرواية على مدى 445 صفحة يقدم السارد والروائي صورة تنوس بين الواقعي والمتخيل لمجمتع إب وقراها بناسها، وعلاقاتهم، وصراعاتهم مع بعضهم، ومع واقعهم، ومع الحياة بكل أفراحها وأتراحها.
القحط والمطر بطلان أساسيان في قري إب، فما إن يتأخر المطر حتى تموت الحيوانات، وتجوع الناس، وتهمد القرى، وتظهر الصراعات بين الأسر المتآخية والمتجاورة، ويشتد قمع السلطة والنافذين لانتزاع اللقمة الكفاف من أفواه الجياع.
الروائيون اليمنيون والقصاصون منذ الرائد محمد عبدالولي، وصولاً إلى الغربي عمران ووجدي الأهدل، أكثر التصاقًا وتواصلاً مع تيار الحداثة، وتجسد روايات عمران والأهدل وعقلان الابتعاد عن صيغة معمار البداية، والوسط، والنهاية، والحبكة، شأن الرواية اللاتينية، كما تخلصوا أكثر من البطل الإيجابي أو الشروط التي وضعها بجدانوف للواقعية الاشتراكية: الصراع الطبقي، والبطل الإيجابي، والانتصار.
ما يميز رواية عقلان اهتمامها برسم الشخصيات الرئيسية والثانوية، وتتبع الأحداث في تطورها، وقراءة الوقائع قراءة غاية في الاتزان والتعمق، والارتقاء بها إلى مستوى رفيع وإبداعي، ثم إن تصور القرى الإبية بغيولها وأشجارها وجمال طبيعتها الساحرة هو ما أعطى لعقلان قيمتها الجمالية، واقترب بها من الإبداع الشعري.
ارتفع السارد عن الأدلجة والتسييس، ومزج الواقع بالخيال، وفي اعتقادي أن أذكى قراءة للرواية هو ما سطره الراوي الرائي محمد عبده الشجاع في خاتمة روايته الساحرة:
“أنثى البياض لم تنتهِ من رحلتها بين الفواصل والغيوم.. لم تسأل أحدًا أيّ درب يصلح للمسير رغم علمها بالمخاطر. لم تتكئ على العكاز الخشبي، على اللون المدهون بمادة تعكس لمعانًا كمرآة من أجل الوصول إلى مبتغاها.
لم تناور كي تلقي بظلالها على أكتاف جائعة، وتشهق الشهقة الأخيرة فوق وسادة معبأة بريش النعام، كما تفعل جماعات الموت، لكنها استمرت في تلاوة الدعاء. بدأت تلون الشال بألوان الحياة الزاهية. تركت عكازًا في الظل إلى جانب عقلان وفصولاً مشتتة لم تنتهِ لأيّ سقوط. حملت ريشها وسنين عمرها المتبقية. قررت البحث عن ريش لا يفنى ولا يموت، مضت في طريقها نحو الحلم الأخير، حلم الجنون بلا عودة، حلم الأحلام”.
*نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق
تعليقات