أ.د. صبري مسلم حمادي*
من مواليد ذمار عام 1947 م قاضٍ ومحامٍ ومترجم وكاتب مقالة, بيد أن إنجازه الشعري
ولاسيما في مجال قصيدة التفعيلة يغلب على جهوده الأدبية الأخرى, وعلى الرغم من أنّ
مجموعته الشعرية الأولى (الهزيم الأخير من الوقت) قد تأخر صدورها ولغاية عام 1997
فإنها أرهصت ببزوغ شاعر متفرد يجيد انتقاء تقنياته الشعرية وتنويع مضامينه, وحين
أصدر مجموعته الشعرية (من تجليات حي بن يقظان) عام 2001 عزز مكانته الشعرية
وأظهر جوانب أخرى من شعريته, منها توظيف الموروث وإعادة استنطاقه من أجل تكريس
مضامين راهنة, وقد تأكدت خصوصية الشاعر وأسلوبه الشعري من خلال مجموعته
الشعرية الثالثة (تراتيل يمانية) الصادرة عام 2003, وثمة انعطافة صوب التصوف في
مجموعته الشعرية (إيقاعات على خطى النفري), وفي مجموعته الشعرية التي أسماها:
(الديوان الغربي للشاعر الشرقي, إيقاع على شرقيات جوته)، ينفتح الشاعر على آفاق
عالمية، ومما يُذكر أنّ الشاعر كان له دور نضالي في الدفاع عن الثورة والجمهورية في
شمال الوطن وجنوبه ومعه جيل من الأدباء المناضلين، وأحسب أنه نظم في هذه الفترة
العصيبة التي يمر بها اليمن قصائد حزينة تفصح عن معاناة اليمنيين في ظل حرب طاحنة
وجد اليمنيون أنفسهم في أتونها، ولعلّ ثمة بشائر أمل في أن تتوقف هذه الحرب الظالمة
وأن يعود اليمن رافلاً بالمحبة والسلام والطمأنينة، ولعلّ شاعرنا الموهوب سيجمع قصائده
هذه في مجموعة جديدة له.
وسأتوقف هنا عند قصيدة “من تجلّيات حيّ بن يقظان” للشاعر محمد عبدالسلام منصور،
حيث يطمح النَّص إلى أن يحكي قصة الهمّ الإنساني على صعيد إنجازاته الروحية، ويحاول
أن يتوغل إلى عمق الشخصية الإنسانية متلبثًا عند نزوعها صوب السماء وتطلّعها إلى ما
يثري الروح ويسكت إحساسها بالظمأ في أجواء سرابية خانقة، ومنذ العنوان “من تجلّيات
حيّ بن يقظان” يحيل النص إلى أجواء قصصية موصولة بقصة ابن طفيل الشهيرة ذات
الطابع الفلسفي الصوفيّ رغبةً من النص في أن يعانق الفطرة الخيّرة والسجيّة الصافية حين
تستدلّ على خلاصها عبر مكابداتها الذاتية، واستنادًا إلى صوت الضمير الحيّ، تمامًا كما
أضيء درب حيّ بن يقظان في اغترابه المكاني الحاد، ووسط تلك الغابة القصية البعيدة عن
أسباب الحياة التي شكّلت المهاد المتخيل، حيث انتقاه ابن طفيل فضاءً مكانيًّا لقصته الطريفة،
ولم يتوغل النصّ الشعري إلى رحاب هذه القصّة وتفاصيلها، بل آثر الشاعر أن يلمح فلسفة
الإشراق الروحي عن طريق التأمل – كما عبّر محمد غنيمي هلال في كتابه المهم: الأدب
المقارن، ولا نلمس صدىً مباشرًا لهذه القصة منعكسًا على هذه القصيدة فيما سوى عنوانها
المفصح عن طبيعة أجوائها الصوفية، لاسيّما أن لفظ تجلّيات يتصدّر العنوان وهو مفعم
بأشذاء الإشراق وأصداء الروح.
بيْدَ أننا إذا سبرنا غور قصة حيّ بن يقظان من حيث إيحائها القصيّ ومعناها العميق فإن
بإمكاننا أن نقرّر مطمئنّين إلى أن شخصية حيّ بن يقظان كانت قناعًا (إذ يتماهى الشاعر مع
حي بن يقظان في إطار القصيدة، ولا يشترط في قصيدة القناع أن تتعادل فيها أو تتطابق
(أنا) الشاعر السارد، وهو الذي ينتقي هذا القناع وينسجم معه، ويرى ذاته أثرى وأخصب
من خلاله من جانب، ومن الجانب الآخر (أنا) الشخصية الأصلية (حيّ بن يقظان) ذات
الإيحاء الأساس المفصح عن هدف القناع ووظيفته الدلالية والفنية).
إنّ طموح الشاعر حين يكون بسعة التاريخ الروحي للإنسان فإن هدف مثل هذه الكتابة
الشعرية هو الحفر في بنية المسكوت عنه والضائع في غضون التاريخ، إنه تدشين لتدوين
جديد مختلف. . . . إذ لم يعد التاريخ ميدانًا مستقلاً بذاته، بل أصبح قابلاً للاختراق الشعري،
كما أنّ الشعر لم يعد امتثالاً للظواهر الغنائية، كما أنه ليس نظمًا تمجيديًّا للبطولات شأن
الملاحم الشعرية بل تكثيفاً لنسيانات التاريخ وإهمالاته، كما عبر عبد العزيز بو مسهولي في
كتابه: الشعر والتأويل، وإذا عكسنا هذه الرؤية على الشاعر محمد عبدالسلام منصور فإننا
نلمس هذه القراءة الجديدة لأحداث فذة غيّرت مجرى هذا التيار البشري المتدفق إلى ما شاء
الله، لا سيّما أن الشاعر يحاول تأسيس رؤية خاصة للحدث التاريخي الفخم منعكسًا على ذاته
العطشى إلى نبع الروح، فهي إذًا انتقاء لزاوية مضّمخة بخصوصية شعرية يطمح إليها
الشاعر وينشدها ويحاول تحقيقها عبر هذه القصيدة.
يبدأ الشاعر قصيدته باستهلال يشي بحسّ ذاتيّ طاغٍ، إذ يقول:
“لا تقلقي، إنّي أتيت على قلق، حملتْ عذابي دمعة فكتمتها، ومضيت يحرقني هجير
الصمت، أركض فوق رمل الحزن نحوك يا ملاذ العاشق المجنون، من يطوي ليالي العمر
مرتحلاً إلى شطآن همسك، ضائع الخطوات في وهم المسافة، فاشعلي برقين في عينيك كي
آتيك من نوريهما حبّاً تجدّد وأتلق”..
فيوارب الشاعر باب التأويل لاسيّما أنه ينتقي شكلاً يبدو ملائمًا لطبيعة القصيدة؛ إذ يتدفق في
هيئة محطّات هي أشبه بالدوائر المغلقة ظاهريًّا، بيد أنها تنفتح على بعضها وتتواشج عبر
سلك إيقاعيّ ينتظمها هو تفعيلة بحر الكامل (متفاعلن) وفي إطار ظاهرة التدوير الإيقاعية ،
فضلاً عن الآصرة الدلالية التي تشدّ هذه الدوائر الشعرية إلى بعضها، فهي تبدأ بقلق روحي
تشي به المفارقة (لا تقلقي/ إني أتيت على قلق)، ثمّ تتوالى عناقيد الصور الشعرية (إصر
العذاب وثقل كتمانه/ الصمت المتماهي مع الهجير الناري/ صحراء الحزن ورملها الجمريّ/
طيف الملاذ الآمن/ صفحات العمر الغارب وهمس الشطآن الحالم/ مسافة الوهم الشاقة/
ومض الحدقتين الساميتين إرهاصًا بغيث روحيّ دافق).
وهذه الصور تزخر بإيحاءات ينتمي بعضها إلى الصورة الذهنية المعبّرة عن معنى الترقب
واستشراف المستقبل، ويتضمّخ بعضها الآخر بعبير الحواس إفصاحًا عن امتزاج الحلم بكيان
الشاعر كله؛ إذ يشغل حواسّه جميعًا ويتوغل إلى أعماقه.
* أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة الموصل سابقا
أستاذ النقد الأدبي المعاصر والعميد الأسبق في جامعة ذمار (اليمن)
أستاذ اللغة العربية في قسم اللغات الأجنبية بكلية واشتناو – أن آربر –
ميشيغن – الولايات المتحدة الأميركية
تعليقات