وضاح عبدالباري طاهر*
محسن بن عبدالكريم بن أحمد بن محمد بن إسحاق. علامة، شاعر، أديب. أخذ عن العلامة إبراهيم بن عبدالقادر بن أحمد، والعلامة الحسين بن أحمد السياغي، وشيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني الذي ترجمه في كتابه (البدر الطالع)، 2/ 72، وذكر أنه نشأ نشأة لم تكن لغيره من أبناء عصره، فقد قال الشعر الحسن، وهو ما يزال صبيًّا في المكتب، ولم يكن له إذ ذاك اشتغال بالطلب، وذكر أنه قرأ عليه في شرح الرضي على الكافية، وفي مغني اللبيب، وفي الكشاف وحواشيه.
وقال عنه أيضًا “له ذهن شريف، وطبع ظريف، وفهم فائق، وعقل تام، وأدب غض، وله قصائد قد طارح بها أكابر العلماء، وأفاضل الأدباء، وهو إذ ذاك في سن البلوغ، وهو الآن في سن الشباب، وقد صار معدودًا في العلماء، ومذكورًا بين أعيان الشعراء من أهل صنعاء…، وبلغ أنه صار ينظم مغني اللبيب نظمًا حسنًا، ويشرح ذلك النظم شرحًا مفيدًا…، وأتفق في سنين قديمة أني خرجت أنا وجماعة من شيوخي، منهم شيخنا العلامة السيد عبدالقادر بن أحمد، وشيخنا العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي، وجماعة من علماء الزمن، وأعيان صنعاء اليمن، وفيهم والد صاحب الترجمة وعمه، وفي الجماعة صبيان في نحو العشر السنين، وأقل وأكثر، ومنهم صاحب الترجمة، فكان الصبيان يلعبون ويشتغلون بما يشتغل به أمثالهم، والمذكور يصغي إلى ما يدور بين أولئك الأعلام من المراجعات العلمية، والمطارحات الأدبية، ولا يلتفت على شيء مما الصغار فيه، فعجبت من حاله، وأشرت إلى جماعة من العلماء ينظرون إليه، فأخبرنا والده إذ ذاك بأن صاحب الترجمة قد صار له شعر في تلك السن كثير من الملحون الذى يسميه أهل اليمن الحميني، وروى له شعرًا من غيره، فعجب من ذلك جميع أولئك الأعلام، وأقبلوا عليه، وامتدت أعناقهم إليه، فلم تمر إلا أيام قلائل بعد ذلك حتى ظهر له النظم الجيد الفائق، وما زال ينمو نمو الهلال حتى بلغ أعلى مراتب الكمال.
وترجمه تلميذه الحسن بن أحمد عاكش الضمدي في كتابه (حدائق الزهر)، ص138- 141، فقال: “شيخنا سيد المحققين، ومحقق الناقدين حامل علوم الاجتهاد على كاهل حفظه، والمعرب عن سنة سيد ولد عدنان ببيان لفظه…، أخذ عن والده وأعمامه آل إسحاق…، وبرع في النحو، والتصريف، والأصلين، والمعاني، والحديث، والتفسير…، وله همة في التوفر على الطاعة، وإقبال على متجر العلم الذي هو في الدار الأخرى أنفق بضاعة….، وأكبر شيخ له في علم الحديث السيد الحافظ الحجة عبد الله بن محمد الأمير، وحضر دروس شيخ مشايخنا الإمام الحافظ عبد القادر بن أحمد الكوكباني.
وذكر نبوغه المبكر شيخ الإسلام عبد القادر بن أحمد فقال: “صبي لم يجاوز سنه اثنتي عشرة سنة قد حفظ بالغيب ثلث القرآن، وبعض المتون، وتلوح عليه شمائل سمعة حسنة، وهو الولد محسن بن عبد الكريم بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن المهدي، أنشدني من شعره:
بروحي من وافى على حين غفلةٍ / فيا ما أحيلى وصله ثم ما ألذ
أخذ قلب مضناه وأعطاه قبلة/ فلله ما أعطى ولله ما أخذ
نقله من التعزية إلى التعجب، وقد نظمه في التعزية جده
قضى الله في ريحانة القلب أمره/ ومن ذا يرد الأمر من بعد ما نفذ
فلا تجزعي يا نفس واستشعري الرضا/ فلله ما أعطى ولله ما أخذ
وهو يكتم شعره عن والده، وعمن يستحي منه، فأعطيته قرطاسًا ودواة، وطلبت منه أن يكتب بشعره ما رآه، ونحن تحت أشجار مغدقة على أنها متسقة، فقام إلى جانب الحلقة وكتب:
يا إمام العلوم عقلاً ونقلا / وإمام الأصول ثم الفروع
اعذروني عن كتب شعري فإني / من حيائي غدوت أي مروع
نبذة عن الديوان المنشور
قام بجمع ديوان شاعرنا صديقه القاضي العلامة عبد الله بن أحمد العماري، وسماه (ذوب العسجد في الأدب المفرد من نظم المولى محسن بن عبد الكريم بن أحمد)، وقد قام الأستاذ عبد الله إسحاق، والدكتور إبراهيم إسحاق بتحقيقه وضبطه والتقديم له.
بعد قراءة الديوان يلاحظ أن كلمة تحقيق لا تنطبق إلا على سبيل التجوز، فللتحقيق العلمي أسسه وقواعده وشروطه التي ينبغي استيفاؤها، ولو وضعت عبارة “أعده للنشر”، لكان ذلك أولى.
إن أهم خطوة قام بها الناشران هي أن ديوان شاعرنا صار بمتناول عشاق الأدب، بعد أن كان مخطوطًا حبيس المكتبات الخاصة، ودور المخطوطات، ثم إن هذه الخطوة ينبغي أن تتلوها خطوة لا تقل أهمية عن الأولى، وهي التحقيق العلمي لمن أراد أن يخدم الديوان خدمة جيدة تليق بمكانة الشاعر.
ملاحظات حول التحقيق:
على سبيل المثال ما ورد في مقدمة الديوان للمحققين، عند ذكر هذه الأبيات:
توحش إذ توحد في/ سبيلٍ غير مسروب
سبيل كان يسلكه/ على صهوات يعبوب
سبوق دون شق غبـ/ اره قرع الطنابيب
فلم يأنس بمأنوس / ولم يرغب بمرغوب
جاء في الهامش رقم (3) ما يلي: “الطنابيب: بعيدة الذهاب، ومنه أطنب في الكلام، إذا أبعد، وأطنب في عدوه: إذا مضى فيه باجتهاد ومبالغة، وفرس في ظهره طنب؛ أي طول، والطنب طول في الرجلين في استرخاء، وطول في الظهر وهو عيب، كما قال صاحب القاموس، وقال ابن منظور: ومنه قول النابغة:
لقد لحقت بأولى الخيل تحملني / كنداء لا شنج فيها ولا طنب
وأطنبت الخيل والإبل إذا تبع بعضها بعضًا في السير، وأطنب الريح إذا اشددت في غبار (كذا ورد، ولعل الصواب: اشتدت).
ثم قال المحققان بعد كل ذلك: فانظر كيف جمع الشاعر محسن بن عبد الكريم كل هذه المعاني في وصف يعبوب أخيه السبوق، وعيب طنابيب من يجاريه في بيت واحد.
أقول: لا يوجد في المعاجم اللغوية لكلمة طنابيب أي ذكر مطلقًا. وإنما المذكور فعل طنب.
والصواب هو: الظنابيب بالظاء، وليست بالطاء. ومنه قول سلامة بن جندل:
كنا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ/ كان الصراخ له قرع الظنابيب
فالظنابيب جمع ظنبوب، وهو عظم الساق. يقول الشاعر: إذا أتانا مستغيث كانت إغاثته الجد في نصرته. يقال: قرع لذلك الأمر ظنبوبه، إذا جد فيه ولم يفتر، وهو كناية عن سرعة الإجابة للصريخ. جعل قرع السوط على ساق الفرس حثًا له قرعًا للظنبوب. ويقال للرجل إذا تشمر لأمر يريده: قد قرع لذلك الأمر ظنبوبه، وهو كقولهم: شمرت الحرب عن ساق، وكشفت عن ساق. (هذا ما ذكره أصحاب المعاجم كابن منظور وابن سيده).
ثم إن الشاعر إن كان يقصد أن دون شق غباره واللحاق به هو قرع الظنابيب قياسًا على المثل الجاري: دون ذلك خرط القتاد، مع ظهور الفارق بين التعبيرين، فقرع الظنابيب أسهل من خرط (قشر) شجر القتاد المتظاهر الشوك الذي لا يستطاع لمسه فضلاً عن خرطه. ففي رأيي أن الشاعر لم يحسن التمثيل بهذا التعبير. لأن أي مشمر ومهتم سوف يلحق به.
وفي حمينيته:
أحبابنا ما عدا مما بدا / أو قد معاكم عن المضنى بدل
فالطرف من بعد بعدك ما غفا / والقلب من طيب ذكرك ما غفل
فعلت لي يا رشا فعل العدا/ ما هكذا في المحبة من عدل
قال المحققان في الهامش (1): أصل الرشا من قولهم إسترش الفصل إذا تبع أمه يطلب الرضاع، فهو كناية عن صغر سن المحبوب أو الصاحب، ومن ذلك قولهم: أتبع الدلو رشاءها، يضربونه مثلاً في اتباع أحد المتصاحبين الآخر”.
أقول: هذا الكلام تطويل من غير طائل، فالرشا هو الظبي.
ثم من الملاحظ على الأبيات هو أن شاعرنا بدأ الخطاب بصيغة الجمع وهو (أحبابنا)، و(أو قد معاكم)، ثم بعد ذلك أفرد الخطاب لمحبوبه، فنزل درجة في خطابه، فقال: (فالطرف من بعد بعدك ما غفا)، وهو في رأيي معيب، ولو أنه قال في بداية البيت (حُبيٍّبي) تصغير حبيبي لكان أنسب. فيعود ضمير خطاب المفرد في قوله (من بعد بعدك) عليه، ثم لا يضره أن يقول بعد حُبيِّبي (أو قد معاكم عن المضنى بدل).
ثم قال الشاعر:
يا غصن مايس في نقا/ لا تستمع من بزوره من نقل
فجاء في الهامش (6): ما يس في نقا: في امتلاء جسم.
والصواب أنه شبه عجيزة محبوبته وكفلها في استدارته ولينه وكبره بالنقا، وهو كثيب الرمل
ومنه الأندلسية المشهورة التي غنتها فيروز: يا غصن نقا مكللاً بالذهب
ومنه الحمينية المشهورة: “رسولي قوم بلغ لي إشارة، وفيها يقول: يا قمر فوق غصنٍ من نقا.
ثم لا أدري لماذا عدل الشاعر عن قول: فعلت بي يا رشا فعل العدا إلى قوله: (فعلت لي)، وجملة (فعلت لك) في التعبير الشائع فيها معنى الإحسان، بخلاف فعلت بك، ففيها معنى الإساءة.
وفي البيت:
أما أنا ما لقلبي دوا/ إلا لقا زين الدول
جاء في الهامش رقم (7) مفسرًا “لقا زين الدول”: من يتحفز في مشيه، وقد يكون من دال دولاً من الغلبة والشهرة.
والحقيقة أن لقا هو مقصور لقاء، وزين الدول هو محبوبه الذي يصفه بأنه زين الدول، وهذا كقولهم فخر الدولة وفخر الملك، فمحبوبه زين دولة الحب والعشق التي لها سلطة لا تضاهيها سلطة.
وفي البيت
فمن علا الغيد حسنه قد علا / ومن سقاني طلا حبه علل
جاء في الهامش:
الطلى: المرض الشديد، والطلا- بالفتح – الهوى، والطلى بالكسر اللذة، وعلة الشيء سببه، والعلة المرض الشاغل.
أقول: كيف يستقيم أن يسقيه المحبوب مرض حبه إلا إذا كان محبوبه مريضًا فأعداه!!
والصواب أن الطلا – بالكسر – هي الخمر، والعلل من العل، وهو السقية بعد السقية، أو الشرب الثاني، كما أن النهل الشرب الأول.
وقال المحققان على قول الشاعر:
يا قلب ما مثل خلك في الملا / إن كان في طبع من يهوى ملل
جاء في الهامش (1) في تفسير الملا: من يملأ عينك من الناس.
والسؤال كيف يستقيم ما مثل خلك من يملأ عينك من الناس
وكلمة الملا كلمة مشهورة يقصد بها الناس والخلق، وإن كانت في اللغة وفي تعبير القرآن هم أشراف الناس الذين يتمالؤون في النوائب بحسب تعبير الزمخشري في أساس البلاغة. ومنه قوله تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل). نعم جاء في (ألفاظ غريب القرآن)، للأصفهاني التعريف الآتي للملأ.
قال: الملأ: جماعة يجتمعون على رأي، فيملؤون العيون رواءً ومنظرًا، والنفوس بهاءً وجلالاً.
هذه بعض الملاحظات على عمل التحقيق، وأرجو أن يخدم الديوان بشكل أفضل.
مؤلفاته:
عدد المحققان مؤلفات العلامة الشاعر محسن بن عبد الكريم، وذكروا منها:
جمع المفردات وشرحها في النحو، والسلك المغني لجمع مفردات المغني، وشرح مغني اللبيب منظومة، ونظم مفردات المغني وشرحها في علم الكلام، وكلها أسماء لمؤلف واحد، فالعلامة محسن بن عبد الكريم إسحاق نظم باب الحروف من كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب في النحو ثم قام بشرحها. وليس صوابًا قولهم: إن كتاب نظم مفردات المغني وشرحها في علم الكلام، وإنما هو كتاب في النحو.
مختارات من شعره:
نعم نعم شكري لمولي النعم/ في كل حاله فرض لازم
أغنى وأقنى كل سائل وعم/ بالجود أصناف العوالم
هو الذي أوجدك من عدم/ وكنت طيف في جفن حالم
نطفه ومضغه صورك في الظلم/ وكان بك في الغيب عالم
وشق سمعك والبصر فانتظم/ وجهك تعالى خير ناظم
وعدلك في الخلق حتى استتم/ صنعة حكيم الصنع حاكم
وزينك بالعلم حتى افتهم / ما سواك له غير فاهم
وأسجد الأملاك لك في القدم/ وبث من آدم أوادم
إليها محكمة وفق المراد / أبيات كالروض بالزهر ابتسم
في طيها عتب من مضنى الفؤاد/ لقاك شافي لما به قد ألم
لمه تناسيتنا يا اهيف وكاد/ يكون وجداننا عندك عدم
قد كنت من قبل سهل الانقياد/ فكيف أبدلتني “لا” عن “نعم”
متى متى بعد جيش الابتعاد / يخفق لجيش اللقا الشافي علم
وأي حين شاتسعف بالمراد/ واقل لقلبي زمانك قد بسم
وما مضى يا حبيبي لا يعاد/ وصلك يعيد الكبائر كاللمم
عرضت غيرك على قلبي فزاد / حبك وما قال على غيرك بكم؟
فاسمح إذا عز قربك بالرقاد/ وابعث بطيفك ولا تخشى الرسم
لم أنس يوم التلاقي / غربي أزال
حين زارني وهو راقي/ برج الكمال
ودار بالكأس ساقي / باهي الجمال
واطفا لهيب اشتياقي/ بالاتصال
فقلت أهلاً وسهلا/ على الرؤوس
بذا الجمال المولى / على النفوس
من تحسده حين يجلى/ نور الشموس
من صار جاعل فراقي/ له رأس مال
وانا الذي طار قلبي/ إلى حماه
وانا الذي حار لبي / في ذا سناه
أبديت للخل عتبي/ روحي فداه
وقلت عل احتراقي/ يطفى بحال
فورد الخل خده / من الخفر
وقال من صح وده/ قاسى الخطر
وحول النوم وجده/ إلى السهر
وصب دمع المآقي/ مثل اللآل
ما بير العزب/ والسوح الرحيب
عندي يستحب/ بعدك ياحبيب
وصلك قد وجب/ للصب الكئيب
جازي من أحب/ بالوصل القريب
حالي مستعاد/ باقي لا يزول
لو يسمع جماد/ مني ما أقول
لا يبقى رماد / كيف اهل العقول
هااعصر لك عنب/ من وادي حريب
فالروض البديع/ مصقول الهوا
في فصل الربيع/ عند الاستوا
أفراحه تضيع/ في دهر النوى
لف الشمل رب/ عاجل بالحبيب
هذه طيافة على ديوان شاعرنا محسن عبد الكريم إسحاق، ولعل فرصة أخرى تتيح دراسته بشكل أوسع.
*كاتب يمني.
تعليقات