وجدي الأهدل*
النوفيلا تكاد تقع في مسافة وسطى ما بين الرواية والمسرح.. هكذا نفهم لعبة الروائي الأمريكي بول أوستر السردية في نوفيلاه المسماة “رحلات في حجرة الكتابة”.
صدرت الرواية باللغة الإنجليزية عام 2007، وترجمها إلى العربية سامر أبو هواش، وصدرت عام 2017 عن دار المتوسط – إيطاليا.
تدور أحداث النوفيلا في مكان واحد لا غير، هو حجرة صغيرة ملحق بها دورة مياه، بابها مغلق ونافذتها الوحيدة مغلقة ولا يتسرب منها أيّ ضوء أو منظر على الخارج.. وهذا يذكرنا بخشبة المسرح، إذ قد تجري أحداث المسرحية في مكان واحد تجنبًا لتغيير الديكورات، أو لأنها تبدأ وتنتهي مكتفية بمنظر واحد دون الحاجة إلى مناظر أخرى.
ومن ناحية الزمن تستغرق أحداث النوفيلا يومًا واحدًا، أي منذ استيقاظ (السيد بلانك) في الصباح وحتى تمدده على سريره للنوم في المساء، وهذا قريب أيضًا من الزمن في العرض المسرحي، إذ يتم تكثيف مدة الأحداث لتجري في مقدار زمني محدود.
هذه القيود التي تفرضها خشبة المسرح على المؤلف المسرحي من حيث مدة العرض ومساحة العرض، نجد معادلًا لها في نوفيلا بول أوستر، وهي قيود ثقيلة فرضها على خياله ليمسرح النوفيلا، بهدف إبراز عنصر الفُرجة – إذا جاز التعبير – وإيهام القارئ بأنه في وضعية مشاهد في قاعة عرض!
حيلة فنية ماكرة، ومنظور جديد ليس معهودًا في التأليف الروائي، فبول أوستر في هذه النوفيلا التي يمكن قراءتها في جلسة واحدة قبل أن يبرد فنجان قهوة، يتلاعب بالقارئ وبقواعد السرد الكلاسيكية معًا.
وقد يتساءل واحد من الناس ما جدوى هذا الخنق للخيال الروائي اللا محدود وحصره في حدود ضيقة؟ الجواب هو اقتراح قراءة “رحلات في حجرة الكتابة” لندرك مغزى بول أوستر من هذه المقاربة المبتكرة.
وبالنسبة لي كقارئ فقد شعرتُ فعلًا بـ(الاختناق) والضيق، بل وحتى بنقص الهواء الكافي للتنفس، كل ذلك بسبب الشكل الفني الذي صبّ فيه بول أوستر حكاية بطل العمل (السيد بلانك).
لم يكن هذا البناء السردي الممسرح عبثيًّا، أو مجرد استعراض أجوف للقدرات الكتابية، ولكنه بناء فني مرهف غرضه إصابة القارئ بالعدوى، لينتقل إليه إحساس (السيد بلانك) بالضيق والحصر والخوف والارتياب وفقدان الثقة بمن حوله وتزعزع الذاكرة وكافة المشاعر السلبية التي تنتاب شخصية حبيسة في قفص.
(السيد بلانك) شيخ في أرذل العمر، يعاني من ضعف مريع في الذاكرة، وهذا الضعف ليس مرده مرض الزهايمر، ولكن الأدوية التي يصفها له الأطباء ليفقد ذاكرته كما يُلمح المؤلف.. إنه متهم بتهم جسيمة، ولكنه نسيها كلها، يسأل كوين محاميه عنها:
“تهم؟ أيّ نوع من التهم؟” يرد عليه المحامي:
“أخشى أنها السلسلة كاملة. من جرم الإهمال إلى الاعتداء الجنسي. من التآمر إلى النصب إلى التقاعس. من القدح إلى الجريمة من الدرجة الأولى. هل أواصل؟”.
نفهم أن السيد بلانك رهن الاعتقال بانتظار محاكمته، لكن من ناحية أخرى ندرك أنه موضوع تحت الحراسة المشددة لحمايته:
“كان ثمة اجتماع قبل ساعتين، يقول كوين، لا أريد أن أخيفك، ولكن، أحدهم نهض واقترح هذا بالفعل كحل عملي. أقتبس ما قاله: يجب جره في الشوارع إلى موقع الإعدام، وهناك يجب أن يشنق، ويقطّع أشلاء وهو حي، ويجب شق جسده وانتزاع قلبه وأمعائه، وقطع أعضائه التناسلية، ورميها في النار أمام ناظريه. ثم يجب فصل رأسه عن جسده، ويجب تقطيع جسده أربعة أجزاء، لكي يعرض على الملأ”.
السيد بلانك مسؤول رفيع في الاستخبارات وأرسل المئات في مهام عديدة حول العالم، بعض منهم لم يعد أبدًا، يسميهم رعاياه وإن كان لا يتذكرهم ولا يتذكر ما كانت مهامهم.
نوفيلا “رحلات في حجرة الكتابة” رغم صغر حجمها تحتوي على قدر هائل من التعقيد، فهي رواية داخل رواية، السيد بلانك نفسه هو شخصية في كتاب لمؤلف اسمه ن. ر. فانشاو.. وهذا الكتاب مطروح على طاولته بغرض استدراجه إلى قراءته، وحين يفعل ويدرك أنه عنه هو في لحظته الراهنة يجن جنونه:
“في انفجار من الغضب الجامح والإحباط يرمي المخطوط وراء ظهره بضربة قوية من معصمه، غير مهتم حتى بالالتفات، لكي يرى أين حط. وبينما يرفرف في الهواء، ثم يرتطم خلفه، يضرب المنضدة بقبضته، ويقول صارخًا: متى سينتهي هذا العبث؟”.
هل يلمح بول أوستر إلى شيء ما محظور في الشارع الأمريكي؟ تبدو النوفيلا التي نتحدث عنها أشبه بجرد للتاريخ الأمريكي، وكأن الشيخ الواهن القوى الفاقد الذاكرة هو رمز لهذا التاريخ العنيف، ومحاولة محو ذاكرة السيد بلانك شبيهة بمحاولة طمس الإبادة التي قام بها المستوطنون الأوائل القادمون من أوروبا ضد الهنود الحمر السكان الأصليون لأمريكا.
تاريخ غزو أمريكا هو تاريخ أسود، يحاول الإنسان الأمريكي المعاصر المتحضر الذي يعتنق مبادئ حقوق الإنسان نسيانه أو التعامي عنه.
لكن الروائيين في أمريكا وفي كل مكان آخر من العالم، لا يسلكون مسلك رجل الشارع العادي الذي يدير ظهره ببساطة للماضي ولا يثقل ضميره شيء.. إن بول أوستر يقيم في هذه النوفيلا محاكمة رمزية للتاريخ الأمريكي، وهي محاكمة متوازنة، تحضر فيها ادعاءات الخصوم ودفاعات المتعاطفين.. والصراع الذي يدور في الحجرة المتواضعة للسيد بلانك هو استعارة عن الضمير الأمريكي الذي تعذبه أشباح الماضي.
ولد بول أوستر (Paul Auster) عام 1947، ويعيش حاليًّا في مدينة نيويورك، وهو مبدع متعدد المواهب: روائي، ناقد، شاعر، مترجم، سيناريست، مخرج، ممثل، منتج سينمائي. ألّف 12 كتابًا وترجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة.
“رحلات في حجرة الكتابة” عمل موجز، يؤكد أن صفحات قليلة تكفي لوضع كاتبها في مصاف العباقرة، فالعبرة بالكيف لا بالكم، وإني أتوقع أن ينال بول أوستر جائزة نوبل في الأدب هذا العام أو في الأعوام القادمة تقديرًا لبراعته المذهلة في السرد.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات