عبدالباري طاهر*
سرديات الحرب هي المسرودة اليوم حتى لدى كل الأطراف، رغم الهدنة الهشة المكرورة الخروقات، المعلقة والمهددة. لم يُفتَح المطار، والحصار الخارجي البري، والبحري، والجوي قائم. الحصار الداخلي حاضر هو الآخر، ولم يجرِ تبادل الأسرى، كما أن بيان اللقاء التشاوري في الرياض يشوبه قدر من الغموض.
أنظار اليمنيين مشدودة إلى عمان وبغداد، وفينا أكثر منها إلى ما يجري في عدن، أو صنعاء، أو مأرب، أو تعز. مناخات الحرب وأجواؤها هي المهيمنة، ولا تزال احتمالات إخفاق الهدنة الواهنة، وتجدد الحرب مثار خوف وفزع.
ربما كل طرف من الأطراف يرى أنه لم يحقق غاياته وأهدافه من الحرب؛ فيظل متمسكًا بنهج الحرب، لكن الشيء الأكيد أن حرب السبع سنوات قد دمرت الكيان اليمني، ومزقت النسيج المجتمعي، ووضعت اليمني في مواجهة أخيه اليمني، فالمشردون بالملايين، والجوعى هم غالبية الشعب، والقتلى مئات الآلاف، والموتى بالمجاعات والأوبئة أضعاف قتلى الحرب، أما البنية التحتية، فقد أتت الحرب عليها، ولم تعد إلا رسومًا وأطلالاً.
قادة المليشيات، والداعمون في المستويين: الإقليمي، والدولي لم تحقق الحرب ما أرادوه منها، وهم ينظرون بريبة وحذر لأيّ مسعى سلامي لا يحقق مراميهم، والمأساة أن الإقليمي والدولي – لطول أمد الحرب – قد أصبح هو الفاعل الأساس، وأصبحت اليمن ميدان قتال، والمليشيات أدوات في حرب ضحيتها شعبهم، وإنه ليستحيل تحقيق ما عجزت الحرب عن تحقيقه، تحقيقه عبر السلام.
أحد أهم العوائق الحقيقية أمام إحلال السلام في اليمن خروج الأمر من يد أبنائه، حتى الزعماء والسياسيون وقادة المليشيات لم يعد الأمر بأيديهم، وهم أطراف للصراع الإقليمي والدولي، اللاعبون الأساسيون في الحرب، والتي لم تتوافق بعد على حل صراعاتها التي تتخذ من اليمن ميدانًا لها، ثم إن الإرادة الشعبية منهكة ومدمرة، والفلاحون، وهم غالبية المواطنين، أهلكت الحرب الدائرة في أراضيهم ضرعهم وزرعهم، وحولتهم إلى مشردين جياع.
والعمال والطلاب لا يجدون عملاً ولا وسيلة للعيش إلا الذهاب إلى جبهات الحرب، أما التجار والفلاحون والمدكنون والباعة والصيادون، فعرضة للعسف، وفُرضت الضرائب الجائرة – حد النهب والمصادرة – عليهم، وهم غالبية السكان لا مصدر رزق لهم، ولا يجدون مجالاً لبيع قوة عملهم، وحرفهم معطلة، ويعيشون حالة فقر حد الإدقاع، ومجاعة تقترب من التمويت، أما الموظفون، وهم أكثر من مليون، فيعيلون ملايين، وهم بدون مرتبات، ويقاسون الويلات.
قادة الأحزاب والشخصيات العامة توزعت على خارطة الحرب. صوت السلام مقموع، ودعوته مصادرة، ويشكك فيها المتحاربون؛ إذ هم حريصون على استمرار الموارد، وإمدادات السلاح، واحتلالهم مواقع الصدارة، وتحكّمهم نهبًا وسلبًا في المناطق المحكومة، وقبل ذلك وبعده خشيتهم من السلام، العدو الذي يتوعدهم بالمساءلة والعقاب، والأخطر فقدان الموارد والسيطرة.
لا يتفاوض اليمنيون مع بعضهم، فالتعويل – كل التعويل – على عمل جاهز ناجز يأتي من الآخرين. قدمت مجموعة الأزمات الدولية تقريرها 29 نيسان إبريل 2022، وتناولت فيه جوانب عديدة عن الحرب في اليمن، وتحت عنوان “اختيار الهدنة وحرب السرديات في اليمن” يرى التقرير أن الكثير من اليمنيين ينظرون إلى الحوثيين كلغز، لكنهم أساسيون في التوصل إلى حل.
ميزة التقرير موضوعيته ومصداقيته في عرض سرديات الحرب ودعاواها لدى كل الأطراف، ويجري تحقيقًا أن الحرب لن تنتهي دون موافقة الحوثيين، مؤكدًا على أهمية شمول الهدنة الأرض اليمنية كلها.
يقدّر التقرير عدد القتلى بمئة ألف، وقد ظلت الوكالات والصحافة والتقارير تقدّر عدد القتلى بعشرة آلاف إلى عهد قريب، وحقيقة قتلى الحرب مئات الآلاف، وهم يتجاوزون المليون، والمأساة أنه لا توجد إحصائيات، وكل طرف لا يكشف عن القتلى لاعتبارات معينة، وقد يكون القتلى من المتحاربين ومليشياتهم أكثر من هذا الرقم بكثير.
يتناول التقرير حركات الإسلام السياسي بشقيه كحركات إحياء، وهو تعبير عن الجهل بمعنى المصطلحات، فحركات الإسلام الحالية كلها شديدة العصبية والتخلف والهوس بالعنف، وهي أقرب للتحجر ورفض الحداثة والتفتح والتجديد منها إلى الإحياء، والنماذج السائدة في البلاد العربية والإسلامية شديدة التطرف والغلو، والواقع أن عضلات القوة أقوى بما لا يقاس من ذهنية التفتح والسياسة على تفاوت، ولكن القادة المليشاوية هي الأكثر بروزًا وتأثيرًا، وليس كما يرى التقرير.
ويأتي التقرير على موقف الحوثيين من المرأة. والقراءة مهمة، ولكن الحقيقة أن موقف كل الأحزاب دون استثناء لا ترقى إلى مستوى احترام المرأة، وحقيقة المساواة المكفولة لها في الإعلان العالمي والمواثيق والإعلانات الدولية، ولكن أحزاب الإسلام السياسي بشقيه هي الأكثر تشددًا.
ولعل أهم ما في التقرير المتوازن هو الخلاصة التي وصل إليها:” تشكل اللحظة الراهنة فرصة على الأقل لوقف القتال في اليمن، وسيتطلب فرصة وقف القتال قفزة في الثقة والتفهم”. ويرى أن الحوثيين حالهم كحال جميع الأطراف يقدمون أنفسهم على أنهم ضحايا الظروف، وعلى عكس ما يقول خصومهم، وأن ثمة بعض الحقيقة، ويأتي على ذكر الستة الحروب على صعدة، وقصف المدن في المرتفعات الشمالية، وأن الحوثيين أصبحوا يلجؤون إلى نفس التكتيكات التي مورست ضدهم، وتأسيس دولة بوليسية من النوع الذي ادعت أنها تقف ضده، ويصف ما قامت وتقوم به السعودية بالأعمال الوحشية التي تنتقدها، ويرى أنه رغم الهدنة، فمن المرجح أن تستمر الحرب إلى أن يعترف جميع الأطراف على الأقل بشيء من مظالم بعضها، والقبول بضرورة تقديم التنازلات، وحتى ذلك اليوم ستزداد الكارثة عمقًا”، وبهذا يختم التقرير موقفه.
التوجه لوقف الحرب في اليمن، وللحل السياسي مرحب به من أي جهة يأتي، ولكن يبقى مشاركة أبناء اليمن، كل أبناء اليمن، في حل مأساة الحرب في بلدهم، وإفساح السبل أمام تشارُك الأطراف والفاعليات المدنية والأهلية في حل الخلافات بالاحتكام إلى الحوار، والتصالح الوطني والمجتمعي.
* نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق.
تعليقات