وجدي الأهدل*
لا نعرف من هو أول من طرح هذا السؤال: “ما هي مهمة المثقفين؟”، ولكن كما يبدو فإن تيار ما بعد الحداثة قد نشأ وانفصل عن التيارات السابقة له بفضل هذا السؤال.
وقد كان جواب تيار ما بعد الحداثة عن هذا السؤال المؤرق هو “المقاومة”.
إن تيار ما بعد الحداثة قد حوّل مبدأ “المقاومة” إلى أداة فكرية تحطم كل ما في طريقها، و”المقاومة” لا تقتصر على الجانب السياسي، بل هي تمتد وتطال كل شيء تقريبًا.
كريستوفر، باتلر أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي بجامعة أكسفورد العريقة، يُعد واحدًا من أفضل من أرَّخوا لتيار ما بعد الحداثة وحللوا مضامينه الفكرية، وذلك في كتابه “ما بعد الحداثة” الصادر باللغة الإنجليزية عام 2002، وترجمته للعربية نيفين عبد الرؤوف، وصدر عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة عام 2016.
الكتاب شديد الأهمية، لأنه يشرح الكثير من الظواهر الأدبية والفنية والفكرية الغامضة بالنسبة لنا في الثقافة العربية، لأننا لسنا حاضرين ضمن السياق التاريخي الذي أنتجها.
يبدو كريستوفر باتلر متحاملًا على تيار ما بعد الحداثة، فهو (خارج) هذه الحركة الفكرية الضخمة، وموقفه منها سلبي باستثناءات محدودة.
لذلك على القارئ أن يكون متنبهًا للموقع الذي يحتله كريستوفر باتلر كناقد شرس لتيار ما بعد الحداثة، فهو ليس واحدًا من أنصارها المبشرين بها على غرار الناقدة الكندية ليندا هتشيون مثلًا، فكتابه يبرز عيوب هذه الحركة الفكرية ويُضخمها، وربما أهمل أو تعامى عن صفاتها الإيجابية للأسباب التي سنذكرها لاحقًا.
ينتمي كريستوفر باتلر من حيث التوجه السياسي إلى اليمين المحافظ، ويتبنَّى رؤيته، وهذا يضعه منذ البداية في خانة اختلاف جذرية مع أُسس ما بعد الحداثة، فهو يُصدِّر كتابه بقوله: “سأتحدث فيما يلي عن الفنانين، والزعماء والمفكرين، والنقاد الأكاديميين والفلاسفة، وأساتذة العلوم الاجتماعية المنتمين للفكر ما بعد الحداثي، كما لو كانوا جميعًا أعضاءً في حزب سياسي مشاكس بلا تنظيم محكم. وهو إجمالًا حزب عالمي وتقدمي، ينتمي لليسار لا لليمين، ويميل إلى تصنيف كل شيء – بدءًا من اللوحات التجريدية إلى العلاقات الشخصية – كمواقف سياسية”.
وفي موضع آخر يطرح هذه الملاحظة الجوهرية: “يتبع ما بعد الحداثيين خطى ماركس”.
سأجازف بالقول هنا لتبسيط الفارق بين الحداثة وما بعد الحداثة، وهو تبسيط مُخل دون شك، أن الحداثة تقع ضمن أجندة اليمين السياسي في الغرب، بينما تقع ما بعد الحداثة ضمن أجندة اليسار.
بالطبع هذا لا يعني أن الانتماء السياسي هو الذي يحدد أذواق الناس، فيمكن أن نجد سياسيًّا يساريًّا لكنه ينفر من موسيقى وأدب وفن ما بعد الحداثة، والعكس صحيح أيضًا.
هناك ملمح آخر يجب أن نلفت إليه الانتباه، وهو أن تيار ما بعد الحداثة يبدو من وجوه كثيرة فرانكفونيًّا من حيث الجذور والفروع، بينما الثقافة الأنجلوفونية مجرد صدى لهذا التيار، فمصدر ما بعد الحداثة الأصيل هو فرنسا، وباريس تحديدًا، ما أعطاها زعامة العالم الثقافية، وهمّش على نحو غير مقصود دور لندن ونيويورك في تصدُّر هذه الحركة الثقافية العالمية، فاقتصر دورهما على التلقي النشط والتأثر، ودفع الحركة إلى مزيد من الحضور في الحياة العامة في الغرب.
نعلم أن هناك صراعًا وجوديًّا بين الثقافتين الأنجلوفونية والفرانكفونية، وكل واحدة منهما تسعى لفرض ثقافتها على العالم، وبما أن تيار ما بعد الحداثة يحمل بصمات فرانكفونية واضحة، فإن عددًا من المثقفين في بريطانيا وأمريكا قد امتعضوا من هذا التيار، ولا يستبعد أن أجهزة المخابرات قد انتبهت إلى خطورة أفكار ما بعد الحداثة، بوصفها تُقدم وقودًا لأيّ حركة سياسية يسارية مناوئة للرأسمالية.
بحسب كريستوفر باتلر، فإنه يندرج ضمن تيار ما بعد الحداثة الأفكار التالية:
1- موت المؤلف.
2- إعادة كتابة التاريخ.
3- مقاومة الادعاءات الكبرى “السرديات الرئيسية”.
4- التفكيكية.
5- أنظمة الرموز.
6- التلاعب بالنص.
7- المجاز.
8- الشكوكية والإيديولوجية.
9- الهجوم على العلم.
وكما نلاحظ فإن هذه الأفكار قد شغلت العالم على مدى العقود الماضية، وشكلت بتشابكها منظومة فكرية مميزة، حرَّكت الراكد، وحطمت الكثير من القواعد الراسخة، وأدت إلى هبوب رياح التجديد في الأدب والفن.
ولا تفوتنا الإشارة إلى مصطلحات كان يستخدمها بذكاء الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح بقوله: “الجديد والأجد”، محاولًا إيصال الأفكار المعقدة بأيسر طريقة لأذهان الشباب، فكأن الجديد هو أدب الحداثة، والأجد هو أدب ما بعد الحداثة.
ويتضح هذا المعنى في الشعر، إذ يمكن أن ندرج شعر التفعيلة ضمن أدب الحداثة، وأن ندرج قصيدة النثر ضمن أدب ما بعد الحداثة.
في الرواية والقصة القصيرة والنص المسرحي تبدو الحدود ما بين الحداثة وما بعد الحداثة أقل وضوحًا، وتحتاج إلى عين نقدية على درجة عالية من الحساسية الفنية للتمييز بينهما.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن الشاعر عبدالعزيز المقالح كان يمتلك هذه البصيرة النقدية المتقدمة على جميع أقرانه من النقاد اليمنيين، وأتذكر أنه نشر لي قصتين قصيرتين في صفحته الأسبوعية بصحيفة 26 سبتمبر، في بداياتي عام 1995، مع توصيف نقدي لم أفهمه إلا بعد مرور سنوات طويلة، حيث أشار إلى أن قصصي تنتمي إلى الأدب الأجد “ما بعد الحداثة” لأن أسلوبها يتعمد إحداث “صدمة” لدى القارئ.
يتطابق هذا الرأي النقدي مع آراء نقاد الأدب في الغرب، فأدب الحداثة هادئ ويجلب شعورًا بالراحة والمتعة للقارئ، وعلى عكسه أدب ما بعد الحداثة الذي يصدم القارئ ويقلقه ويسلبه عمدًا أيّ شعور بالمتعة وربما آذى مشاعره.
سيقول قائل ما الهدف من هذا الأدب والفن ما بعد الحداثي؟ يمقت كريستوفر باتلر هذا النوع من الأدب والفن، ويراه أدبًا وفنًّا تخريبيًّا، وله أهداف سياسية مضمرة معارضة للنظام الغربي المهيمن على الحضارة البشرية منذ قرون.
يقول كريستوفر باتلر: “تتميز أعمال ما بعد الحداثة بهذا الطابع المعارض النقدي”.
ضمن سياق ما بعد الحداثة الفكري، يمكن وضع كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد في المقدمة، فهذا الكتاب شكّل “صدمة” للاستشراق الغربي، وجعل المئات بل والألوف من الباحثين في الجامعات الأوروبية والأمريكية ينتبهون إلى التحيز في نظرة الغربي للحضارة الشرقية، والصورة النمطية المشوهة عن الإنسان في الشرق.
المفكرون اليساريون، وعلى رأسهم ميشيل فوكو، أوضحوا أن أدب وفن الحداثة ينتمي إلى الطبقة البرجوازية، وينتج إبداعًا مُفصلًا على مقاس هذه الطبقة، وملبيًا لذوقها، وهي طبعًا صيرورة حدثت دون اتفاق مسبق بين الطرفين، فالفنان التشكيلي مثلًا ينتج لوحات لمناظر طبيعية جميلة، والثري يشتريها ليزين بها صالونه، وكذلك الروائي والكاتب المسرحي الذي يبحث عن إرضاء زبائنه من القراء أو النظارة.
إذن سعى تيار ما بعد الحداثة إلى تفكيك هذا الاتفاق الضمني بين منتجي الفنون والطبقة البرجوازية، وكتابة اتفاقية مختلفة وربما مستفزة، تهدف إلى إحضار ما لا يروق للعقلية البرجوازية إلى المشهد الفني، وجلب عناصر غير مقبولة لأسباب عرقية أو دينية أو جنسية أو ذوقية ونحو ذلك.
وفي هذا التيار، تيار ما بعد الحداثة، لاحظ كريستوفر باتلر أن التنظير النقدي احتل الواجهة: “تتميز حقبة ما بعد الحداثة بالهيمنة الاستثنائية لأعمال الأكاديميين على أعمال الفنانين”.
المفاجأة التي لم تخطر ببال هؤلاء الأكاديميين اليساريين، هي قدرة الرأسمالية الرهيبة على التأقلم مع التيار الجديد واستيعابه، فاللوحات الفنية البارزة التي تمثل تيار ما بعد الحداثة أصبحت تُقيّم بملايين الدولارات، ومتاحف الفنون العريقة في نيويورك وبرلين وباريس صارت تتهافت على اقتناء تلك اللوحات وتدفع مقابلها مبالغ خيالية.
وهكذا فإن الفن وبضمنه الأدب، الموجه أساسًا ضد المؤسسات الرسمية، وضد الذائقة الرصينة، وضد رجال الأعمال، وضد الثقافة المحافظة المستقرة الأحادية، وضد الأخلاق المتزمتة، وضد استعلاء الرجل الأبيض، قد تكيَّف مع الواقع وفقَدَ زخمه الثوري، ولم يعد يربطه باليسار إلا الاسم.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات