بلقيس محمد علوان*
امرأة تقتل زوجها وتذبحه بعد أن فارق الحياة وتقطع أطرافه وتضعها في التنور لإحراقها، ورجل يقتل صديقه ويقطع رأسه بالساطور ثم يسير في الشارع حاملاً رأس الضحية، عشرات الأخبار لجرائم مروعة تقشعر منها الأبدان، والأشد ترويعا أن كثيرًا منها تصدر من شخص لا يتوقع منه هذا الفعل الشنيع، وكثير منها تكون الضحية فيها أقرب الناس: الوالدين، أحد الزوجين، الأبناء، والأقارب.
تضج قاعات المحاكم في جميع أنحاء العالم كل يوم بقضايا القتل، ولن يكون الأمر مفاجأ أن يحكم على القاتل بأقصى عقوبة ممكنة في القانون، وسواء تعقدت ملابسات القضية أو كانت تفاصيلها واضحة، هناك دائمًا سؤال واحد يكرره المختصون: ما الذي أدى بهذا الشخص إلى القيام بهذا العمل البشع؟
القتل فعل شنيع: أن تسلب حياة أنسان، هذا من أفظع ما يمكن أن يرتكبه إنسان، ما الذي يحدث؟ هل يتجرَّد الفرد من إنسانيته في تلك اللحظات؟ كيف يُقدِم على هذا الفعل؟ ألا تثنيه صرخات الضحية؟ ألا يرعبه منظر الدماء؟ نظرات الرعب في عين ضحيته؟ أسئلة مرعبة ربما تسألها في كل مرة تسمع بجريمة قتل.
الجاني في كثير من الأحيان لا يتوقع منه أيّ عمل عنيف، وكثيرًا ما نسمع جُملاً من قبيل: إن القاتل شخص مستقيم متزن علاقاته طيبة وسط جيرانه وزملاء عمله أو دراسته، وأقاربه، ولا يمكن أن يبدر منه هذا الفعل، ولا يتصور أحد أن يتحول إلى مجرم وقاتل لأقرب الناس إليه، ولكنه بالفعل أقدم على قتل شخص أو عدة أشخاص.
لكن ربما لم يكن الأمر في الأصل قرارًا، ربما سيق المجرم إلى أفعاله كما يُساق المنوَّم مغناطيسيًّا، يتحرك من دون وعي، ويؤمر بالأفعال، فيأتي بها، ربما للأمر أبعاد أخرى قد تجعلنا، ولو للحظة، ننظر إلى القاتل باعتباره هو الآخر ضحية.
في يوم مشؤوم من عام 1966، قتل «تشارلز ويتمان» المواطن الأمريكي أمه وزوجته، و16 شخصًا آخرين في ساحة جامعة تكساس، وبطبيعة الحال قد تبدو هذه الحادثة حادثة قتل جماعي يقوم بها شخص معتوه، ولكن
بعد هذه الحادثة المروعة قال تشارلز: لم أقتلهم، لكن ربما عقلي فعل، قال إنه يشعر بأنّ شيئًا بيولوجيًّا داخله هو ما يسبب له أفكار القتل، ولاحقًا أشارت تقارير تشارلز ويتمان الطبية إلى زيارات متعددة لأطباء مختلفين، وفي رسالة انتحاره كتب: «لا أفهم نفسي.. مؤخرًا أصبحتُ ضحية عدد من الأفكار الغريبة، تتكرر تلك الأفكار داخلي باستمرار، ويتطلب مني الأمر مجهودًا فظيعًا للتركيز على مهمة مفيدة»، وطلب تشريح جثته بالكامل بعد وفاته، فهل كان حِس ويتمان مصيبًا في النهاية؟ وبعد مقتله بطلقات نارية على يد الشرطة تم تشريح الجثة بالفعل، وهنا يأتي الجزء المثير، فقد كشف التشريح أن ويتمان كان مصابًا بورم خبيث في المخ يضغط على منطقة تُعرَف باللوزة الدماغية Amygdala)) والتي تتولى مسؤولية تنظيم السلوك العاطفي، وبخاصة ذلك الذي ينشأ عن أحاسيس سلبية مثل العنف والخوف، ألا يعني كل ذلك أن ويتمان لم يكن يملك اختيارًا فيما ارتكبه من جرائم؟ وبعد التشريح بأيام أقرَّت هيئة مكونة من أطباء من مختلف التخصصات أن الورم كان من أسباب عدم قدرته على التحكم في مشاعره وأفعاله.
علميًّا من المتَّفَق عليه أن للعنف سببًا جينيًّا وبيولوجيًّا لا يمكن تجاهله، ويُصنَّف القتلة المتسلسلون في الأغلب تحت واحد من اضطرابين أساسيين: اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، واضطراب الشخصية الحدِّي:
ففي اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، يفقد الشخص قدرته على الإحساس بأي مشاعر تجاه من حوله، ما يُسهِّل عليه ارتكاب أي جرائم دون أن يخلِّف ذلك تبعات في نفسه، أما في اضطراب الشخصية الحدِّي، فإن الشخص يفقد قدرته في التحكم في مشاعره بشكل كامل، وبالتالي فإن الشخص المصاب بالشخصية الحدية قد يرتكب الجرائم ضد من حوله، حتى أقرب الناس إليه: أفراد عائلته، وتختلف أعراض الاضطرابَيْن بشكل أو بآخر، لكنهما يشتركان في أنهما مرضان عقليان تعتل بهما وظائف الدماغ بشكل واضح، وتقول الدراسات: إن الأشخاص المصابين بأيٍّ من الاضطرابين يعانون نقصًا في هرمونات معينة أو انكماشًا في مناطق بعينها في المخ أو تشوهًا في مناطق أخرى.
لكن لا يمكن أن نرجع كل جريمة إلى أحد الاضطرابين، فقد يبدو واضحًا ميل الإنسان العادي إلى العنف إذا وُضِعَ تحت ظروف معينة مثلًا، وبسبب تراكمات وضغوط شديدة وعنف مستمر قد يصل الأمر بالإنسان العادي إلى ارتكاب جريمة قتل، ومعروف أن الاضطرابات السلوكية موضوع واسع جدًّا، ويندرج تحتها عدد لا حصر له من النظريات والتفسيرات، لكن قد يرتكب الإنسان جريمة مدفوعًا بالخوف، أو مدفوعًا بالظلم المتراكم، وقد يستسيغ الشخص القتل في ظروف الحرب، ففي ظروف الحرب يزيد العنف وتسوء الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتصدق مقولة: إن الحرب تخرج أسوأ ما في البشر، العنف والأنانية والأثرة، وكثير من الصفات السلبية.
أمر آخر جدير بالدراسة: إن قضايا قتل عديدة كان من الممكن ألا تحدث لو تداركنا ما قبلها، قضايا الحقوق تطول وتطول في المحاكم ثم يقرر أحد الأطراف أخذ حقه بيده، قضايا أحوال شخصية، وخلافات زوجية لا تحل، تتراكم الضغوط والمشاعر السلبية ومشاعر القهر والظلم ثم يحدث القتل، وقد كان من الممكن أن تتوقف قضية المرأة التي قتلت زوجها وقطعت أطرافه عند حد الطلاق، لكن يحدث أن تجبر الأسرة الزوجة أو الزوجين معًا على الاستمرار دون حل الأمور العالقة، وكان يمكن ألا يحدث القتل، ويتوقف العنف بعد أول بادرة عنف من أي طرف بالعدل والتراضي، وكان من الممكن أن يكون البت في قضايا الحقوق والإنصاف حدًّا فاصلاً ومانعًا لجرائم قتل، لكن الواقع يقول غير ذلك، وثمة مقدمات كثيرة يمكن أن تفضي إلى حدوث جرائم قتل ما كانت لتحدث لو أننا أوقفنا ما قبل التنور والساطور.
* أكاديمية وكاتبة يمنية
تعليقات