وجدي الأهدل*
منذ أن شاهدت فيلم “الراقص مع الذئاب” بطولة كيفن كوستنر، وأنا أتتبع أفلام هذا الممثل والمخرج الأمريكي الفذ، كما قرأت كتابًا عنه، وهو بالمجمل فنان جاد، يختار أفلامه وأدواره بعناية فائقة، فهو انتقائي ولا يأخذ فيلمًا على عاتقه إلا إذا كان يحمل رسالة إنسانية عميقة.
آخر فيلم سينمائي شاهدته له كان بعنوان “دعه يذهب LET HIM GO” تأليف وإخراج توماس بيزوتشا، وبطولة دايان لاين وكيفن كوستنر وليزلي مانفيل.. وتاريخ عرض الفيلم يعود إلى عام 2020.
يتحدث الفيلم عن نقيب شرطة متقاعد وزوجته (آل بلاكيدج) فقدا ابنهما الوحيد في حادث غامض، أرملة ابنهما تزوجت من رجل آخر ورحلت معه، وبالطبع أخذت معها طفلها من زوجها السابق. الجدَّان يشعران بالشوق لحفيدهما، يسافران إلى منطقة نائية في الغرب الأمريكي، ويتعرفان على عائلة (آل ويبويز) التي تترأسها امرأة عجوز متسلطة اسمها بلانش.
ظاهريًا يبدو الفيلم دراما اجتماعية محدودة النطاق، لكنني بالتدريج اكتشفت أن الفيلم يناقش واحدة من أكثر القضايا البشرية إثارة للجدل على مر التاريخ.. قضية الصراع بين الحضري والريفي، بين قيم المدينة وقيم القرية، بين الأفكار التقدمية والأفكار الرجعية، بين التيار المحافظ والتيار الحداثي.
الفيلم يكشف أن الأمة الأمريكية تنقسم إلى فئتين متمايزتين:
الأمريكي الريفي المحافظ الأبيض المعادي للمختلف عنه عرقيًا ودينيًا ولغويًا، والأمريكي المدني الحداثي الليبرالي المتقبل للأعراق الأخرى والثقافات الأجنبية.
تعود جذور هذا الانقسام في المجتمع الأمريكي إلى الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865)، إذ كانت الولايات الجنوبية التي أعلنت الانفصال عن الاتحاد تحمل عقلية عنصرية ضد السود والهنود الحمر والملونين، وذات تقاليد وأعراف متخلفة رجعية، بينما الولايات الشمالية على عكسها تمامًا، تبنت قانون تحرير العبيد، وذات سلوك مدني عصري، وقوانين عادلة لا تميز بين أبيض وأسود وغني وفقير.
صحيح أن الشمال هو الذي انتصر في الحرب، ولكن تحت السطح ما تزال تلك الروح القروية الانعزالية العنصرية حاضرة بقوة في المجتمع الأمريكي، ولعل دونالد ترامب هو نموذج فجّ وفاقع لهذه النفسية المتشبعة بالغرور والتعالي على الأجناس الأخرى.
(آل ويبوي) الريفيون لا يرون بأسًا في ضرب الرجال لزوجاتهم، وضرب الآباء لأبنائهم، بينما (آل بلاكيدج) المدنيون لا يستسيغون هذه المعاملة، ويبذلون قصارى جهدهم لإنقاذ حفيدهم من براثن عائلة (آل ويبوي).
هنا نلحظ صراعًا بين القيم الحضرية والقيم الريفية.. صحيح أن مؤلف ومخرج الفيلم لم يكن محايدًا، وأظهر انحيازًا للقيم المدنية، إنما هذه هي أيديولوجية المثقفين الأمريكان بصفة عامة، وهو توجه يشارك بوعي في التصدي للقيم الريفية الشعبوية، التي باتت تيارًا سياسيًا متعاظمًا، قد يؤدي في ذروته إلى انفصال عدة ولايات أمريكية عن الاتحاد.
يعاني المهاجرون العرب في السويد من قيام السلطات باقتحام بيوتهم، وانتزاع أطفالهم منهم بالقوة، وتربيتهم بعيدًا عنهم، والسبب أن الشرقي يرى أن استخدام أسلوب الضرب ضروري لتقويم سلوك الأبناء، بينما ينظر القانون السويدي إلى هذا العقاب البدني من زاوية مختلفة، وبناءً عليه يتم حرمان العائلات العربية التي تستخدم العنف ضد أطفالها من حق تربيتهم.
ما علاقة فيلم “دعه يذهب” باليمن؟، كما أسلفنا يبدو أن الحفيد الذي تتنازع عائلتان على كفالته، هو رمز عام لكل مجتمع بشري، بمعنى أن الحفيد هو المجتمع، وفي كل مجتمع قوتان تتصارعان للسيطرة عليه.
في اليمن لدينا صراع بين القيم المدنية والقيم القروية، علمًا أن هذا الصراع وفقًا لهذه الرؤية الاجتماعية غير منظور بالنسبة لـ 99% من اليمنيين.
إذا تأملنا الحرب الأهلية اليمنية عام 1994 التي انتهت بانتصار الشمال على الجنوب، سنلاحظ أن القيم القروية هي التي كُتب لها النصر على القيم المدنية، والدليل على صحة هذا الاستنتاج هو تعرض مدينة عدن للنهب والسلب عقب انهيار القوات المدافعة عنها.
إذا نظرنا إلى المدن اليمنية اليوم، سنلاحظ ظاهرة زحف القيم القروية على المدن، وتراجع القيم المدنية.. المدينة اليمنية في عام 2024 لم تعد مدنية، فهي قروية في إدارة مؤسساتها ونوعية قوانينها.
صنعاء وعدن وتعز وسواها ليست الآن سوى كتل من المباني، وهي مدن من الناحية الإحصائية فقط، ولكن من حيث المعنى والمفهوم فهي تحمل سمات الريف ومعاييره التي لا تناسب ولا تتفق مع معايير المدينة.
بنى أجدادنا القدماء الأسوار حول المدن، ولم يكن الهدف حمايتها من غزو القبائل فقط، ولكن لأهداف كثيرة، منها إقامة حاجز مادي يُرى بالعين يفصل بين القيم المدنية والقيم القروية.
ومعلوم أنه في العصور القديمة وإلى عهد قريب، كانت لصنعاء القديمة أعراف وعادات وتقاليد خاصة بها، تميزها عن سائر الإقليم الريفي الذي يحيط بها، وأولها أن يضع القبيلي سلاحه إذا أراد دخول المدينة، وألا يطلب فيها ثأرًا، فهي حرم لا يحق له أن يصول فيه، وأن يمتثل لقوانين المدينة لا لأعراف القبيلة، وسوى ذلك مما يطول ذكره.
العقل القروي يناسب القرية، ولا يناسب المدينة، فهذه سنة الله التي سنها في الأرض، وأما عكس هذه السنة فكارثي، لأن العقل القروي يناقض فكرة المواطنة المتساوية، ويناهض العيش الجماعي المشترك، فهو يهدم أساسات الدولة دون أن يدرك جسامة الأفعال التي يقوم بها.
الدولة، أية دولة في العالم، تنشأ من المدينة، لا من الريف، وتستمد أسباب قوتها وتطورها من تطور المدينة، ولا تبدأ في التدهور إلا في حالة ترييف للمدينة.
عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب سماها “المدينة”، والتسمية ليست اعتباطية، ولكن لأنه أراد تأسيس دولة.
تمكن العباسيون من إسقاط الدولة الأموية، ولكي يؤسسوا دولة جديدة كان لابد لهم من تأسيس مدينة من الصفر تشكل القاعدة المتينة للدولة، فأسسوا مدينة بغداد التي صارت لاحقًا عاصمة العالم.
بغداد في العصر العباسي هي نموذج للمدينة الإسلامية التي تحققت فيها المواطنة المتساوية والعيش المشترك، فعاش فيها المسلم والمسيحي واليهودي والمجوسي وديانات أخرى متجاورين في السكن والأسواق، وهاجر إليها للعمل والتجارة وطلب العلم طيف واسع من سائر الأمم التي شملها الحكم الإسلامي، وحتى تلك التي لم يشملها.
يقدم المفكر الإسلامي محمد شحرور تفسيرًا وجيهًا للفرق بين كلمتي المدينة والقرية في القرآن الكريم، فيطرح أن معنى القرية أي تلك التي تخلو من التعددية الدينية والعرقية والثقافية، وعكسها المدينة التي تمتزج فيها الأديان والأعراق والثقافات.. وهذا التمييز القرآني بين المدينة والقرية متقدم جدًا حتى بالنسبة لعصرنا الحالي، فعلماء الجغرافيا يحددون الفرق بين المدينة والقرية رقميًا، أي بعدد السكان، ولكن وفقًا لشحرور فإن القرآن يميز بين المدينة والقرية ثقافيًا، أي بتعدد وتنوع السكان.
وفقًا لهذا المنظور المذهل المستمد من القرآن الكريم، فإن أيّ تجمع سكاني يخلو من التعدد والتنوع يصنف كقرية، ولو ناهز عدد السكان العشرين مليونًا.
بلادنا اليوم تخلو من المدن، وما هو موجود على الخريطة مجرد قرى مكتظة بالسكان.. وفهم هذه الحقيقة يؤدي بنا إلى فهم سبب ضعف الدولة وتمزقها إلى دويلات.
* روائي وكاتب يمني
تعليقات