وجدي الأهدل*
أسلوب أدبي جديد غزا العالم منذ نشر الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز رائعته الروائية “مائة عام من العزلة” عام 1967، وتعارف النقاد على تسمية هذا الأسلوب بـ”الواقعية السحرية”.
المدهش أن هذا الأسلوب الفني قد انتقل تأثيره من أمريكا اللاتينية إلى ملايين الكُتّاب في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا وكندا، وظهرت منذ ثمانينيات القرن الماضي موجة ضخمة من الروايات التي تنتهج منهج الواقعية السحرية، وما تزال هذه الموجة مستمرة حتى يومنا هذا الذي تُكمل فيه الواقعية السحرية المائة سنة من عمرها.
ما هي الواقعية السحرية؟ وأين ظهرت؟ ومتى؟ الإجابات على هذه الأسئلة ستبدو مفاجئة تمامًا لمن سمع بالمصطلح النقدي ولم يفتش عن جذوره!
السائد أن أمريكا اللاتينية هي الموطن الذي نشأت فيه الواقعية السحرية، ولكن الحقيقة أن ألمانيا هي البلد الذي ظهرت فيه الواقعية السحرية لأول مرة.. وأول شخص في العالم نحت هذا المصطلح هو الناقد الفني الألماني (فرانز روه) الذي أصدر عام 1925 كتابًا عنوانه “الواقعية السحرية”، وذكر فيه سمات الواقعية السحرية وحددها بـ 22 سمة. والكتاب لم يكن نقدًا لأعمال أدبية، ولكنه نقد فني لأعمال الرسامين الألمان الذي ظهروا في عشرينيات القرن العشرين، وعُرفت أعمالهم آنذاك بأنها تنتمي لتيار فني يُسمى ما بعد التعبيرية.
هكذا ندرك أن الواقعية السحرية ولدت أولًا في الفن التشكيلي، ثم انتقلت لاحقًا إلى الأدب.
جميع فناني حركة ما بعد التعبيرية الألمان تأثروا بالفنان الإيطالي العبقري (جيورجيو دي شيريكو)، الذي يعد بحق الرائد الأول لفن الواقعية السحرية في العالم.
يمكن لمن يريد التوسع، البحث عن لوحات دي شيريكو وأوتو ديكس وتأملها، وسوف يلاحظ على الفور ماذا يعني أسلوب الواقعية السحرية.
لخّص الناقد الفني فيلاند شيمث السمات الفنية للواقعية السحرية كما حددها فرانز روه على النحو التالي:
- قناعة وتركيز حاد: رؤية غير عاطفية وذات تركيز حاد.
- تتجه رؤية الفنان إلى موضوعات غير مهمة تصف الحياة اليومية مع الاهتمام برسم وتصوير كل ما هو غير جميل.
- تركيب موحد نمطي، دائمًا ما يصف مساحة كالزجاج لا يدخلها الهواء تُعطي في النهاية انطباعًا ساكنًا لا حركة ولا حياة له.
- تحرر اللوحات من كل علامات اليد أو الحرفة.
- علاقة روحية مع الأشياء المادية (1).
وبشكل عام يتميز فن الواقعية السحرية بالكآبة والغموض، ولعل أشهر من يمثّل تيار الواقعية السحرية في مجال الرسم الفنانة المكسيكية فريدا كالو.
في أربعينيات القرن العشرين نقل الروائي الكوبي إليخو كاربنتر أسلوب الواقعية السحرية إلى أمريكا اللاتينية، وعبّرت روايته “مملكة العالم” عن براعته في الاستفادة من هذه التقنية الجديدة.
الجدير بالذكر أن كاربنتر عمل ديبلوماسيًّا لبلده في فرنسا، واطلع عن قرب على التيارات الفنية الأوروبية السائدة آنذاك، وعند عودته إلى كوبا قدّم هذه الهدية الثمينة لثقافة أمريكا اللاتينية.
في الستينيات حدثت عاصفة رواية “مائة عام من العزلة” التي قلبت الموازين، وجعلت العالم كله يلتفت إلى هذه التقنية المذهلة ويتهافت على استخدامها، ليس في الأدب فقط، ولكن في مجالات فنية أخرى متعددة مثل الأفلام السينمائية وأدب الطفل.
كنموذج لأفلام الواقعية السحرية يمكن مشاهدة فيلم “مدينة الملائكة” الذي أُنتج عام 1997، من إخراج براد سيلبر لينج، وبطولة نيكولاس كيج وميج رايان، والفيلم يتحدث عن الملاك سث الذي أحب فتاة من البشر وقرر أن يضحي بوضعه كملاك ويتحول إلى بشر ليتمكن من العيش مع حبيبته، ولكن القدر كان له بالمرصاد وتتوفى حبيبته في حادث.
مصطلح الواقعية السحرية متناقض (واقع + سحر)، وجميع النقاد البارزين في العالم لاحظوا ذلك كعيب يجعل من الصعوبة إيجاد تعريف يحدد بدقة ما هي الواقعية السحرية.. ولعله كان حريًّا بالناقد فرانز روه تسميتها بالواقعية الزئبقية!
تورد الناقدة الأمريكية ماجي آن بورز عدة تعريفات للواقعية السحرية، منها هذا التعريف:
“كل القصص والروايات السردية التي تتضمن أحداثًا سحرية في سياق سردي واقعي، بحيث إن الأشياء الخارقة رغم أنها ليست أمرًا بسيطًا أو واضحًا تسرد على غرابتها على أنها حدث عادي كالأمور التي تحدث يوميًّا، ويمكن قبولها والاعتراف بها واعتبارها جزءًا لا يتجزأ من عقلانية الواقعية الأدبية وماديتها”(2).
في الأدب تمزج الواقعية السحرية بين الأسطورة والعقلانية، بين الواقعي والخرافي، بين رؤيتين مختلفتين للحياة، بين المنظور المديني والمنظور الريفي، بين نمطين من التفكير.. هذه الازدواجية هي سر إعجاب القراء في سائر أنحاء العالم بروايات الواقعية السحرية.
في أوروبا ظلت الواقعية السحرية حية ومستمرة عبر أجيال عديدة من الأدباء، لعل أشهرهم الروائي الألماني الحائز على جائزة نوبل (غونتر غراس) بروايته “طبل الصفيح” التي شكلت وقت صدورها عام 1959 حدثًا أدبيًّا استثنائيًّا في الثقافة الأوروبية.
تنتمي روايات الروائي البريطاني من أصول هندية (سلمان رشدي) إلى الواقعية السحرية، وربما كان استخدام هذا الأسلوب الفني أحد أسباب سوء الفهم الذي أدى إلى إصدار الخميني فتوى بإهدار دمه.
هكذا يتبين لنا أن استخدام تقنية الواقعية السحرية لها أوجه متعددة، إذ يمكنها أن تضرب بعمق وتُعرّض مؤلفها للخطر.
بالنسبة لأدباء أمريكا اللاتينية يُلاحظ أنهم استخدموا الواقعية السحرية كأداة لمناهضة الاستعمار، بمعنى أن المستعمر الأوروبي يُفكر بطريقة عقلانية – واقعية، بينما سكان البلد الأصليون كالهنود الحمر مثلًا يفكرون بطريقة سحرية – خرافية.
يبدو أن هناك سجالًا بين المثقفين الأوروبيين والمثقفين من أمريكا اللاتينية حول الواقعية السحرية وإلى من تنتمي ومن هو الأكثر تمثيلًا لها.. وكل طرف ينسب الفضل لنفسه.
لكن خارج هذا السجال النقدي الذي ينخرط فيه أكاديميون من أرقى الجامعات على ضفتيّ الأطلسي، فإنه يخطر ببالي أن أول وميض للواقعية السحرية إنما أتى من كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي ترجمه للفرنسية أنطوان غالان عام 1704، ومنها ترجم إلى سائر اللغات الأوروبية تحت مسمى “الليالي العربية”.
يحتوي كتاب “ألف ليلة وليلة” ليس فقط على تقنية الواقعية السحرية، ولكن على منجم من التقنيات الفنية، ما يزال الأدب الغربي ينهل منه حتى اليوم.
بالنسبة لحضور الواقعية السحرية في الرواية العربية المعاصرة، فإن هذا الحضور لا يبدو واضحًا، أو على الأقل ليس متماشيًا تمامًا مع الشروط الفنية لهذه التقنية الفريدة من نوعها.
تبدو رواية “ليالي ألف ليلة” لنجيب محفوظ الصادرة عام 1982 الأسبق عربيًّا في تطبيق تقنية الواقعية السحرية.
—-
- الواقعية السحرية: ماجي آن بورز، ترجمة سليمان العطار وأماني توما، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2018، ص 157.
- المصدر نفسه، ص 11.
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات