بقلم: محمد عزيز
كنتُ مستمعا لخواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله ورفع في الجنان درجاته ونفعنا بعلومه في الدارين آمين، وهو يتحدّث عن آخر آية من سورة المائدة وربطها بأول آية من سورة الأنعام. وأعجبتني استدلالاته القرآنية حول وجود الله. وطبعاً هذه لمحات فقط وليست كتابا مفصلاً حول أدلة وجود الله تعالى. ثمّ تنبّهت لخواطره المكتوبة وبحثت عنها في نفس الموضوع وإذا بي أجد بعض التغاير، فأحببت أن أرصد الصورة الكاملة لتلك الخواطر مستعيناً بالمسموع والمكتوب.
وبعد أن تكلم الله سبحانه عن بعض الآيات، ختم سورة المائدة بقوله سبحانه: {لله ملك السماوات والأرض وما فيهنّ، وهو على كلّ شيءٍ قدير} (المائدة:١٢٠). وهي نهاية مُحكمة لأن الله أرجع كل شيء إليه لأنه خالق الكون والمتصرّف الأوحد فيه. فكأنه أراد تنبيهنا لكي نلتفت إلى القضية الكونيّة وهي ملكيته للسموات والأرض. والعجيب أنه لم يقل و(مَن فيهن) لكي تدلّ على الإنسان الخليفة، بل قال {وما فيهن} التي تدلّ على غير العاقل. والجواب من الشيخ على أنّ يوم القيامة يستوي فيه العاقل وغير العاقل، فالإنسان سيكون كالحيوان والنبات والجماد ولذلك عبّر بـ(ما) لأن الجميع مقهورون ولا يُوجد أي اختيار مثلما كان في الدنيا.
ويتحدّث الحقّ سبحانه وتعالى في أوّل آية من سورة الأنعام بقوله{بسم الله الرحمن الرحيم. الحمدُ لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون.}(الأنعام:١) وبيّن الشيخ الشعراوي أن معنى الحمد هو الثناء على المُنعِم وهذا المعنى موجود في كثير من التفاسير. لكن الشيخ الشعراوي له أنوار، نقتبس منها بعض اللمحات الإيمانيّة. فحين يبدأ الله سبحانه السورة بالحمد بيّن لنا أنه ضروري وأنه يجب أن يكون موجوداُ في الوجود. والسؤال هو لِمَن يتوجّه (الحمد)؟ وأيضاً مَن هو المحمود؟ ولماذا يكون (الحمد) ضرورياً؟ فالجواب أن الإنسان وهو سيّد هذا الكون طرأ على هذا الكون فوجده كوناً مُعدّا له إعداداً متقنا، يستوعب له كلَّ مقوّمات حياته وكلّ استبقاء نوعه. فكان ولابدّ أن يلتفت عقلُه إلى مَن صنع ذلك. ولماذا يُحبُّ أن يعرفَ مَن الذي صنع؟ والجواب: حتّى يتوجّه له بالشكر وحتّى يتوجّه له بالثناء لأن هذا أمر كان ضرورياً. لأن الله لم يخلق الكون لنفسه، ولم يدّعِ ِ أحدٌ أنّه خلقه. أي أنه لا يُوجد أحد على وجه الأرض سواءً كان مؤمناً أو كافراً أو مُلحداً أنّه ادّعى أنّ هذا الكون من خلقه وتكوينه. والكون لابدّ له من فاعل. فهل يمكن أن تدلّونا على الفاعل لنتوجّه له بالحمد؟فقال الله تحمّلا عنّا: وجّهوا الحمد لله. إذن فكل حمد يجبُ أن يتوجّه إلى الله. ولكن نحن مختلفون في البيان والفصاحة والأداء فمثلاً هذا يستطيع أن يتكلّم كلاماً عاديّاً، وهذا يستطيع أن يتكلّم كلاماً فوق العادي، وهذا يستطيع أن يكون أديباً ليأتي بأسلوب مُنمّق سواءً كان نثراً أو شعراً، ولكن الله بالنسبة للجميع واحد. فما ذنب الذي لا يقدر على البيان؟ كيف يحمد الله؟ لذلك، قال الله سأعلمكم صيغة الحمد حتّى يتساوى جميع خلق الله في حمد الله. فتعليم الحق سبحانه لنا صيغة الحمد لله تستحقّ منا حمداً جديدا. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم: سبحانك لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسك. هذا الإله الذي نتوجّه له بالحمد لأنه خلق هذا الكونَ كله وخلق السيّد وهو الإنسان فيه، يجبُ أن يُستَمعَ إليه فيما يُوجّهه. لماذا؟ لأننا صنعته. وما دُمنا نحن صنعة الإله، فيجبُ أن نستمع من الإله الذي صنع قانون صيانتنا، لأن صانع الصنعة هو الذي يضع قانون الصيانة. فلا يصنع صانعٌ صنعة ثمّ يأتي آخر ليضع له قانون الصيانة. وقانون الصيانة هو في التكليف أي افعل كذا ولا تفعل كذا.
ثمّ هَبْ أن إنساناً وقعت به طائرة في مكان ما موحش، لا يُوجد به أي شيء من أسباب الحياة، وأراد ان يأكل ويشرب ويستتر حتى ينام، لكنه لم يجد شيئاً من هذا. وأخذته سنة من النوم ثم استيقظ فجأة فوجد مائدة عليها كل أطايب الطعام والشراب، وبجانب ذلك وجد خيمة فيها فراش وغطاء وصنبور للغسيل. وساعة يرى كل ذلك فهو لا يبدأ في استخدام أي شيء قبل أن يتساءل عن مصدره، لأنه يريد أن يشكر الذي أنعم عليه كل هذه النعم السابغة. فكأنك أيها الإنسان حين واجهت الكون ووجدت أشياء تخدمك ولا عمل لك فيها، ولا للسابقين عليك عمل فيها لأن أحداً لم يدعها لنفسه، فوجدت شمساً تشرق، وهواءً يهب، وماءً يروى، وأرضاً تُزرع، وغير ذلك من كل ما يخدمك، وأخبرك الحق أنه هو الذي منحك كل هذا، ألا تشكره إذن؟ إن البشرية عندما استفادت من المصباح الكهربائي قامت الضجة لتكريم أديسون الذي اخترعه، فما بالنا بخالق الشمس التي تنير الكون كله؟ إن الاختراعات البشرية تخلد أصحابها وتقوم الضجة لتكريمهم. فما بالنا بخالق الكون كله؟ ما بالنا نكرم صانع المصباح الذي ينير مساحات ضيقة مهما اتسعت بالقياس إلى الأرض ويغفل بعضنا عن تنزيه خالق الشمس التي تنير الأرض في النهار وتختفي نصف اليوم حتى يستريح الإنسان؟ ولكنها تسير سيرا دائماً، فإن غابت عنك فقد أشرقت على غيرك فهي في فلكها تسبح. إذن فالحمد لله حينما استقبل الإنسان هذا الوجود. ووجد كل مقومات الحياة التي لا يمكن أن تخضع لقوة بشر، ولا لادعاء بشر. إن الحمد أمر واجب الوجود وإن اختلف الناس حول مَن يُوجّه له الحمد. إننا نوجهه إلى الله تعالى لأنه هو واهب النعم. وهناك فرق بين الوجود وإدراك الوجود، فلا نخلط بين الإثنين. فمثلاً أدركنا الجاذبيّة في العصر الحديث عندما اكتشف نيوتن قوانينها، ولكن الجاذبية موجودة قبل نيوتن وهي كذلك منذ خلق الله السماوات والأرض، فقد قال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا} (فاطر:٤١). وأدركنا حديثا الموجات الصوتية والإشعاعات الضوئية وغير ذلك من التقدم العلمي إلا أن كل هذه الأشياء موجودة في كون الله. وهل ادّعى أحد أنه خلق الكون؟ ومادام لا يُوجد مدّعٍ وقال الله إنه هو الذي خلق هذا الكون عن طريق الرسل الذين أرسلهم للبشرية، فكان يجب علينا أن نستمع لتعاليمه ونأتمر بما أمر به وننتهي عمّا نهى عنه. فإذا كنا نعمل ضجة كبيرة على الذي اكتشف المصباح وصنع الشمعة التي تضيء في الليل، أفلا نلتفت لعظمة الشمس التي تشرق لآلاف السنين دون أن تتعطل أو تحتاج إلى صيانة، أفلا نلتفت للقمر الذي نعرف به مقادير الشهر وعدد الأيام والحساب؟ أفلا نلتفت للنجوم التي نهتدي بها في ظلمات الليل وفي سيرنا في البحار؟ أفلا نلتفت للنعم الكثيرة التي لم نجيء إلى الحياة إلا وهي موجودة ومُسخّرة لخدمة الإنسان. أفلا يسأل الإنسان نفسه عن الرياح والمطر وحتى الأرض التي تنبت بالزرع. فقد ترك الله لنا أن نضع البذرة في الأرض ولكن من يقوم برعايتها ومن يزرعها؟ هل كنا ننزل تحت التربة لنعرف كيف تنشأ أم أن الله كفانا كل ذلك كي ننتظر يوم الحصاد. ولذلك يقول الحق سبحانه: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه حطاما، فظلتم تفكّهون، إنا لمغرمون بل نحن محرومون} (الواقعة: ٦٣). ومن الآيات الدّالة على وجود الله أن تنظر في نفسك. هل فيك روح تعطيك سر الحياة؟ هل عرفت أين هي؟ هل هي في رأسك، في يديك، في عينيك، في لسانك الذي تنطق به؟ هل أدركتها؟ هل سمعتها؟ هل رأيتها؟ هل شممتها؟ هل ذقتها؟ هل لمستها؟ طبعاً لا. إنك لا تعرف ولكنها موجودة فيك. فإذا خرجت من جسدك وأصبحتَ جيفة، أفلا يدلك ذلك على قضية خلق الإنسان وموته! فقد ذكر الله في القرآن مراحل خلق الإنسان، فمرّة يقول من ماء، ومرّة من تراب، ومرّة من طين، ومرّة من حمأ مسنون، ومرّة من صلصال كالفخار حتى يُنفخ فيه الروح فيستوي بشراً سوياً. فقد يقول قائل لماذا القرآن يأتي بأحوال مختلفة في عملية خلق الإنسان؟ ولكي نفهم ذلك يجب أن ننظر إلى مراحل الخلق في سيّد البشر آدم عليه السلام حيث كان في أصله من ماء، ثمّ إن الله خلطه بالتراب فأصبح طيناً. ثمّ تركه فترة حتّى أصبح نتناً وهو الحمأ المسنون، ثمّ تُرك فترة حتّى تصلّب وهو ما يُعرف بالصلصال المصنوع من الفخّار. ثمّ نفخ الله فيه من روحه فاستوى بشراً سوياً وأمر ملائكته بالسجود له. ومراحل الموت الطبيعي تأتي بنقض البنية عند خروج الروح فيعود الجسد كالصلصال الفخّار، ثمّ إذا تُرك عاد إلى الحمأ المسنون ورائحة النتن فيه، فإذا تحلّل وعاد إلى الطين ويتبخّر الماء ويصبح تراباُ. فإذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى عن مراحل الخلق فإننا نصدّق لأننا نشاهد ذلك بأعيننا عن طريق دليل نقض البُنية. وهذا الدليل هو نفسه دليل مراحل الخلق التي أخبرنا بها الحق سبحانه وتعالى. ولذلك يقول: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: ٢١). أمّا بالنسبة للذين ينكرون البعث فقد قال فيهم أبو العلاء المعرّي:
زعم الطبيب والمنجّم كلاهما
لا تبعث الأجساد قلتُ إليكما
إن صحّ قولكما فلستُ بخاسر
وإن صحّ قولي فالخسارُ عليكما
ومعنى إليكما في البيت الأول اسم فعل أمر أي ابتعدا عني. وإذا تأملنا في بقية الآية في قوله تعالى:{وجعل الظلمات والنور} فإننا ندرك أن الظلمات جمع ظُلمة وجاء بها بالجمع لكثرتها كظملة الليل وظلمة القبر وظلمة الشك، وظلمة الكفر، وظلمة أعماق البحار، وغير ذلك ولكن النور واحد لأن الحق واحد. وبقية الآية {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}. والكفر في اللغة هو الستر والتغطية فكأن الكفر جاء ليغطّي شيئاً موجوداً ولذلك نأخذ من كلمة الكفر دليل الإيمان نفسه. ويعدلون لا تعني هنا العدل، ولكنها تعني الميل عن الحق. وفي الختام، فإن عطاء الشيخ الشعراوي لا يُملّ لأنه عطاء متجدّد فرحمة الله عليه رحمة واسعة.
د. محمد علي عزيز – محاضر في اللغة العربية والأدب قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى- جامعة يبل.
تعليقات