وجدي الأهدل*
في مساء الثالث عشر من ديسمبر حدث أمر نادر في تاريخ اليمنيين: فاز منتخب الناشئين ببطولة غرب آسيا، فدخلت السعادة إلى ملايين المنازل في داخل اليمن وخارجها، وحدثت الوحدة الشعبية التي عجز تنابلة السياسة عن تحقيقها بكل خطبهم السياسية الرنانة، وأطروحاتهم الوحدوية الفارغة من أيّ مضمون حقيقي.
لقد تمكن أولاد في عمر الزهور من رفع الروح المعنوية لشعب كامل، وأظهروا أن اليمني ليس مكتوبًا عليه أن يظل مهزومًا إلى الأبد.. وأن بإمكانه بالعزيمة والتنظيم الجيد أن يقطف الانتصارات.
هذا درس بليغ: لكي تولد الأمة اليمنية من جديد، يجب أن يحرز كل يمني ويمنية نصرًا يضاف إلى رصيد الشعب اليمني، كلٌ من موقعه، وفي مجال عمله، وبما يمليه عليه ضميره.
الانتصارات المقصودة ليست تلك التي تأتي من المهاترات الكلامية، والجدل السياسي الممجوج الذي غرق فيه اليمنيون حتى الأذقان، ولكن من القيام بإنجازات حقيقية وملموسة، مثل الأعمال الأدبية والفنية والفكرية والعلمية والرياضية التي تخلق حالة من الفخر بالانتماء للهوية اليمنية الجامعة، وتجعل اليمنيين واليمنيات مُعايرين على تردد موجي واحد، ومزاج شعبي متقارب، وذوق فني متفرد يميزهم عن سواهم من شعوب الأرض.
هذا ما فعلته أغاني محمد مرشد ناجي وأيوب طارش وأبوبكر سالم بلفقيه وعلي الآنسي، التي خلقت نوعًا من الذوق الفني الغنائي المخصوص بالأذن اليمنية في سواحل اليمن وجبالها وصحاريها.
وهذا ما أنجزه الأدب في تثقيف اليمنيين بثقافة ذات طابع خاص، ومثاله أعمال عبدالله البردوني وعبدالعزيز المقالح ولطفي جعفر أمان ومحمد حسين هيثم وحسين سالم باصديق وعبدالله سالم باوزير وسعيد عولقي ومحمد عبدالولي وزيد مطيع دماج.
ولا يخفى تأثير الفنان العبقري هاشم علي على الحركة الفنية التشكيلية اليمنية، ورفعها إلى مستوى التجارب الفنية العالمية.
والحديث يطول عن الإنجازات الفكرية للمثقفين اليمنيين، كل واحد في مجال تخصصه، مثل أبوبكر السقاف وحسين عبدالله العمري ويوسف محمد عبدالله وآخرون.
لقد قدم الجيل السابق مساهمات عظيمة من أجل الإبقاء على الهوية القومية لليمنيين حية ومتجددة ونامية ومتطورة.. وعلى الجيل الشاب الآن أن يقدم إنجازات متتالية ومتنامية في كافة المجالات، لكي يشعر الناس بأنهم ينتمون إلى شيء أكبر، وأنهم يتحكمون بمصيرهم، ولهم دور في صنع تاريخ بلادهم.
الخروج العفوي لليمنيين إلى الشوارع للاحتفال بانتصار منتخب الناشئين كان معناه أن هذه لحظة تاريخية يجب الاحتفال بها، وكل شخص خرج إلى الشارع للاحتفال شعر بأنه مشارك شخصيًّا في صنع تلك اللحظة التاريخية!
يحدث هذا التأثير المعنوي الإيجابي أيضًا عندما يسمع اليمني أغنية يمنية جديدة رائعة، وعندما يقرأ عملاً أدبيًّا جيدًا، وعندما يشاهد مسلسلاً دراميًّا ينتزع إعجابه، وعندما يضاف شيء ما ذو قيمة إلى الوشائج النفسية والفكرية التي تربطه بأرضه وقومه.
لكي ننجح في التحول من مجموعة من القبائل المتنازعة إلى أمة ذات هوية قومية واحدة، فإننا نحتاج إلى سلسلة مطردة من الإنجازات الثقافية البارزة ليتحقق لنا هذا الارتقاء.
“الأمة” لا تولد بقرار سياسي، ولا عن طريق الغزو والفرض بالقوة، ولكن عن طريق التفوق والبروز في الهندسية المعمارية والعلم والثقافة والرياضة، وكل ذلك لا يأتي إلا في ظل نظام سياسي واقتصادي رشيد وعادل.
ماذا قدم السياسي اليمني في وقتنا الحاضر لبلده؟ ما هي الانتصارات السياسية التي خطفها من أجلنا؟ ما هي المكاسب السياسية التي جلبها لثلاثين مليون يمني وضعوا مصيرهم بين يديه؟ هل يستطيع أيّ سياسي يمني أن يرينا وجهه ويقول أنا أنجزتُ كذا وكذا من أجلكم؟ أو على الأقل يقول أنا استقلت من منصبي اعترافًا مني بعجزي عن تقديم أيّ نفع لكم؟؟
إذا لاحظنا جيدًا، سوف نكتشف أن أسوأ فئة يمنية هي فئة السياسيين، فهذه الفئة هي الأعلى دخلاً، وتحصل على الجاه والنفوذ والسلطة والقوة، ولكنها لا تقدم شيئًا يذكر بالمقابل.. لا توجد عوائد تعود على الشعب من وراء هذه الشريحة الطفيلية، ولم يتمكنوا في أيّ يوم من الأيام من إدخال الفرحة على قلوب اليمنيين كما فعل أولئك الفتية الذين فازوا ببطولة كأس غرب آسيا.
ما أستطيع تأكيده أن المثقف اليمني يقوم بواجبه في خدمة بلده قدر استطاعته، عن طريق اللوحات التشكيلية والأفلام السينمائية والمسلسلات الدرامية والكتب الأدبية والفكرية والأعمال الغنائية والموسيقية والمطبوعات والمواقع الصحفية، وأنه يبني ليل نهار جدار حماية الهوية اليمنية من التجريف والتفكيك والطمس..
لعل أكثر دولة عربية لها هوية قومية راسخة هي مصر، والسبب في ذلك يعود بشكل كبير إلى الدور الذي لعبته النخبة المصرية المثقفة في خلق هذا التجانس المعنوي والتناغم الاجتماعي، وتدين مصر بالفضل في تماسكها الوطني لرموزها الثقافية الكبرى، مثل أم كلثوم ونجيب محفوظ وأحمد زويل وطه حسين وتوفيق الحكيم ومجدي يعقوب ونجوم السينما وأبطال الألعاب الرياضية الفردية والجماعية..
بل إن بلدًا صغيرًا مثل لبنان، يمتلك هوية وطنية يحسد عليها، والفضل في ذلك يعود إلى الإنجازات الثقافية الزاخرة التي راكمها اللبنانيون عبر العقود الماضية، وعملت على تقوية الأواصر الوطنية الجامعة، رغم التنوع الطائفي فيما بينهم.
“الأمة” اليمنية تحتاج إلى ميلاد جديد، تحتاج إلى عدد كبير من الأبطال في كافة المجالات.. اليمنيون يتوقون بشدة إلى رؤية أبطالهم المحليين وهم ينتزعون الانتصارات، ويزرعون الفرح في قلوبهم.
النصر الكروي الذي حققه ناشئو اليمن هو نموذج لما ينبغي أن يفعله كل يمني، فلا يكتفي بدور المتفرج، بل عليه أن يصنع هذا الحدث يوميًّا، في السياسة والاقتصاد والطب والهندسة والفن والأدب والصحافة والرياضة، وفي أي عمل يقوم به سواءً كان كبيرًا أو صغيرًا، وألا يُعفي أحد نفسه من هذا الواجب المقدس، من قائد الدولة إلى عامل النظافة.
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات