وجدي الأهدل*
في زماننا هذا إيقاع الحياة سريع جدًّا، وخصوصًا في المدن الكبرى. نحن الآن نأكلُ طعامنا بسرعة، نشربُ الماء – هذا العنصر الأساس في تكوين أجسامنا – ونحن مستعجلون.
إنصاتنا لِمن حولنا بكلّ جوارحنا بات نادرًا جدًّا، مشاعر الحب نمنحها لمن نُحبّ على عجلٍ، وكأنّ القطار سيفوتنا.
لا وقت لدينا للتأمل، لم نعُد نُفكّر كالإنسان البدائي الذي كان يرى شروق وغروب الشمس أعجوبة جديرة بالمشاهدة.
لم يعد بوسع الإنسان الحديث إهدار ساعة من وقته الثمين معلقًا بصره باتجاه الشرق، منتظرًا بلهفة شروق الشمس، ولا ساعة متأملاً غروبها ومشاعر الوداع تُسيطر على نفسه وكأنه قد فارق عزيزًا من أعزائه.
عمليًّا لم يعُد الإنسان الحديث الذي يعيشُ في المدن البالغة الحداثة قادرًا على رؤية الأشياء المحيطة به، إنه يتعامل معها، يستفيدُ منها، يستغلها، لكنه لا يعطيها أبدًا أيّ اهتمام حقيقي، ليس لديه فائض من الحُنُوّ والإحساس والامتنان تجاه الموارد المتاحة له.
إنه يلتهم التفاحة دون أن يُلقي عليها ولو حتى نظرة محبة عابرة. وأما الشجرة التي قُطِفتْ منها فإنه لا تربطه بها أيّة رابطة عاطفية، ولن يبالي إذا سمع في نشرة الأخبار عن قطع أشجار التفاح في مكان ما؛ لأنه مرتبط عاطفيًّا بالسوبر ماركت التي تُوفر له كفايته من التفاح.
يمكننا أنْ نسترسل في ذكر هذه الملاحظات إلى ما لا نهاية.. والشاهد أنّ الإنسان الحديث الذي يحيا في المدن قد فقد الاتصال بالطبيعة، بالكائنات الحية، إلى درجة أنه لم يعد حتى متصلاً بنفسه..!
جائحة كورونا التي أجبرت ثلث البشرية على البقاء في منازلهم تحت الحجر الصحي، هي تلويحة عتاب رقيقة تُزجيها الطبيعة الأُمّ للإنسان الحديث.
ماذا تريد أنْ تقول هذه الأم؟، إنها تقول: اِشرب الماء ببطء واشعُر كم هو سائغ، كُلْ طعامك وامضغه ببطء وفكّر كم هو لذيذ. اِقض حاجتك ببطء، ضاجع ببطء، عِش حياتك بوتيرة بطيئة، وتذكّر أنّ الأرض تدور حول نفسها ببطء لتشعر بالراحة وأنت تسعى على ظهرها.
هل نأمل أنْ نعود إلى إيقاع الحياة البطيء نتيجة الضربة التي وجهها لنا كورونا.. وهو الإيقاع الذي عاشتْ وفقه الأجيال القديمة، قبل اختراع جورج ستيفنسون القطار (1814)؟
أجل، إنّ فيروس كورونا الذي أجبر مليارات البشر على ترك أعمالهم وملازمة دُورهم قد يفعل هذا. إنه معلّم صارم يُرشد البشر إلى تصحيح المسار المدمر الذي اتخذته حياة إنسان المدن العصرية.
لا يعرفُ إنسان المدينة سوى أشياء قليلة عن الطبيعة، عن الأرض، عن الحيوانات. قد يعرف حزمة معلومات، ولكنه متجرد عنها، يعرفها نظريًّا، ولا يفهم جوهرها.
إذا افترضنا أنّ هناك كواكب أخرى صالحة للحياة، ونقلنا إنسان المدينة إلى واحدة منها، فإنه لن يشعر بأيّ فرق، لأنه يقضي معظم سنوات عمره متنقلاً ما بين سرير النوم ومائدة الطعام ومكتب العمل والمرحاض، ولذا لن يكون مستغربًا إذا نسيَ في أيّ كوكب أمضى حياته بالضبط.!
يُقدّم فيروس كورونا فرصة ذهبية للبشر الذين وقعوا تحت الحجر الصحي ومكثوا في بيوتهم، تتمثل في إعادة برمجة حياتهم من جديد.
أشياء كثيرة يجبُ إعادة النظر فيها، أيّ أنْ نقوم بشيء أُسمّيه “تدبير الحياة”.
عن قراءة الكتب، لا يصح أنْ نقرأ وكأننا في ماراثون قراءة، ولكن أنْ نقرأ على مهل لتدبرها. ولمن يزاولون الكتابة، عليهم إنجاز فروضهم الكتابية ببطء، باستمتاع، والتخلي عن الركض في مضمار الجوائز الأدبية لإدراكها قبل أنْ تُقفل.
إن الإتقان يتطلب حتمًا البطء، والمهارة قد تتبدد إذا حمّلنا جهازنا العصبي ضغوطًا فوق طاقته.
لا بُد أنْ يتعلّم الإنسان إنجاز العمل دون توتر، إذا أُنجزَ العمل بتوتر فهذا حرف لفكرة العمل نفسها، بمعنى أنّ العمل الذي يقوم به الإنسان – أيًّا كان نوعه – الهدف منه القضاء على التوتر ومنحه الراحة النفسية والعصبية.
عندما يغدو الفلّاح إلى الحقل ويقوم بعمله، فإنه يحصل في نهاية النهار على مكافأته حتى قبل حصوله على الثمرة، تتمثّل في شعوره بالسلام الداخلي والانسجام مع بيئته.
ولكن إيقاع العمل في المدن العصرية يحبط هذه الآلية الفطرية، ويُفشل أهم أهدافها: إفراغ التوتر عن طريق العمل المثمر.
نجدُ الموظف في المكتب، والعامل في المصنع، والطفل في المدرسة، جميعهم يعانون من التوتر، بسبب جرعة التنافسية الزائدة، والضغط المستمر على الفرد لزيادة إنتاجيته وتحسين موقعه.
يرسل فيروس كورونا – كما ستفعل الأجيال اللاحقة من الفيروسات – رسالة إلى البشرية مفادها فكروا في غيركم!، أطلقوا سراح الطيور المحبوسة في الأقفاص، أغلقوا حدائق الحيوان، وأعيدوا الحيوانات المعتقلة دون ذنب إلى بيئاتها الأصلية.
قلّلوا من استهلاككم للموارد الطبيعية، كُفّوا عن الحركة الجنونية في: طائراتكم، سياراتكم، قطاراتكم، سفنكم.. لقد أزعجتم كلّ كائن حيّ يتشارك معكم الحياة على كوكب الأرض.
الضجيج الذي نُحدثه ينبغي أنْ يتوقف، أُمّنا الأرض تشعر بالكرب وتطالب بشيء من الهدوء!، وما فيروس كورونا سوى توبيخ مهذب، بدلالة استهدافه كبار السن الذين أطلقوا هذا الجنون العالمي في شبابهم، وإعفاء الأطفال الذين لم يتورطوا بعد من عقوبة الموت.
هل بمقدورنا أنْ نفهم رسالة الأرض؟، هل نستطيع أنْ نستوعب حجم الإجرام الذي مارسناه بحق أمنا الأرض؟، إذا لم نفهم، إذا لم نأسف ونندم، فإن الوباء التالي سيكون قاسيًا لا يرحم.
*.قاص وروائي يمني
تعليقات