فكري قاسم*
حصلت مرة في الحارة مضرابة حامية الوطيس بين فريقين متعصبين من الجيران.. استمرت لمدة أسبوع متواصل من المهاوشة والضرب بشكلٍ يومي متقطّع دون تعب أو كلل أو ملل، وأينما وجد أحد من الفريقين أيّ واحدٍ من فريق الجيران الآخر في أيّ مكان من الحارة أو في السوق ما نسمع إلا الصياح والنياح واللطم والقراح والتهديد والوعيد، وكلما فرع الناس بينهم أو احتجزت الشرطة أفرادًا من الطرفين لحلّ الإشكال وتهدئة الأمور وإصلاح ذات البين، يحول الله بواحد من أفراد الفريقين عاده مشدود ومتشنج يلقى واحد من الغرماء في الطريق، وهات يا مضرابي جديد غوبر بالحارة، وأذكى روح الخصومة والدجيف من جديد.. طيلة أسبوع واحد فقط من الأكشن تفقش فيه كم من رأس من الطرفين، سالت خلاله دماء كثيرة أدخلت الكراهية والأحقاد إلى كلّ بيت من بيوت الفريقين المتنازعين على جدار فاصل بينهما، وهم في الأساس جيران وأصحاب متعايشين من زمان دخل بينهم الشيطان وأحال حياة الأسرتين إلى جحيم.
وكودن افترعوا بعد يا شاهدين اشهدوا، وتوقفت المضرابة اليومية بينهما في محاولة لتغليب صوت العقل وتهدئة النفوس.
وبعد شهر مدري كيف تطور جنون الخصومة فجأة بين الجارين المرهقين أصلاً، وقام أحد الشبان بقتل صاحبه وصديقه المقرّب من أبناء العائلة الأخرى باعتباره واحدًا من الغرماء ليتغير مسار المعركة جذريًّا من بعد ذلك، ولتخسر العائلتين المتنازعتين على الجدار خلال أقلّ من شهرين ثلاثة آخرين من شبانها في حوادث قتل متفرقة أدمت قلوب كلّ الجيران في الحارة.
بينما أصبح بقية أفراد العائلتين أما في السجن أو هاربين بلا هدف غير الانتقام.
حدث ذلك في حارتنا بالجحملية أواخر العام 2012، بينما كانت الدولة تترنحُ آنذاك.
وهناك بوادر حرب تغلي على مهل في بلاد لطالما تنازعَ أبناؤها على جدران وهمية تُرضي غرور وأطماع سياسيين فرقاء عينهم على السلطة بأيّ وسيلة كانت، وتحت أيّ مبرر كان، ولو تسير البلاد كلها ملح سهل، أهم شيء سلامة الجدار.
سنة 2015 اندلعت الحرب اللعينة في البلاد كلها، وكانت حارتنا مع الأسف مسرحًا جيدًا لها، ولتصفية الحسابات العالقة بين إيران والسعودية على جدار حدودي فاصل بينهما في سبيله، ولإرضاء غرور الطامعين بالسُّلطة تَقاتلَ الأهل والإخوة والجيران في الحارة طيلة سنتين متواصلتين من الجنون.. خلال تلك السنتين من الحرب اليومية المتواصلة استخدمت أطراف الحرب كلّ الأسلحة بكلّ جنون.
قُتِل شُبان كُثر كانوا من قبل أصحاب وجيران يتفادوا بالأرواح، تخربت غالبية بيوت الحارة بمنتهى القسوة والجنون، بما فيها بيتا العائلتين اللتين أهدرتا طاقات أبنائها في قتالٍ عبثيٍّ على جدار..!
العبرة في الموضوع أنه إذا كانت مضرابة الأسبوع الواحد بين الجارين قد احتاجت إلى ثلاثة أشهر بس عشان يفترعوا، وخلال المفارعة بس قرحت أربعة رؤوس، وعادها ما طابت لهم، وما افترعوا وما فرعت بينهم إلا الحرب بعد أنْ فرّ جميع الأهالي من الحارة.. الآن وقد لنا سبع سنين في حرب أهلية طاحنة مدمِّرة أدخلت الكراهية والأحقاد والأحزان والموت بوفرة إلى كلّ بيت وحارة ومدينة في اليمن، والقتلى من كلّ شقّ هم في الأساس أهل وإخوة وجيران ومن بلادٍ واحدة، قولوا لي بحجر الله يا خُبرة: كم شانحتاج من وقت مِنْسِب يفرعوا بيننا، ومِنْسب نسد ونتصالح؟
وكم عد شانزيد نجلس هكذا في قتال يومي مِنْسب الجدار؟!
خربت البلاد كلها وما وقع بالجدار حق إيران ولا بالجدار حق السعودية شيء، وشعوبهم اليوم هاجعة ومرتاحة، وبلدانهم آمنه بأمان الله، واحنا شعب ليل الله مع نهاره في مَحْط المَحيط، وبلادنا باب حوي مفلوخ يتقمبعوا داخلها الشياطين كيف ما اشتوا، وموشيقع؟ أهم شيء سلامة الجدار.
وكم يا دماء سالت وأبرياء ساروا، وكم يا خراب، وكم يا أحقاد، وكم يا ثارات تغلي في النفوس، وكم يا ملاعين في هذي البلاد أوصلونا بجشعهم وبجنون فكرة الوصول للسلطة إلى هذي المواصيل الصعبة والمعقّدة.
والمشكلة الكبيرة انّو ما عند أبو أيّ طرف منهم احترام لبلادهم، ولا عند أبو واحد منهم حتى ذرة إحساس بمعاناة الناس ولا بالخراب الذي حلّ في مكان، وفوق هذا كله ما تزال الوقاحة سيدة الموقف، ومش راضين يفترعوا، ولا راضين يسدوا، وكلّ طرف منهم ما زال يعتقد أنه قادر يحكُم البلاد لوحده، وتحت جحر كلّ واحد منهم سيل من الدماء..!
والمشكلة الأكبر أنّ هولا اللي دخّلوا البلاد ودخّلونا معاها في جحر الحمار الداخلي، هم أنفسهم اللي متحكمين بالعملية السياسية، وهم أنفسهم اللي يسيروا ويجوا لأجل مباحثات السلام..!
سلام موه مع هولا.. أنا لي منع ابتكم.. هولا الجن والله ما شيتحقق السلام لليمن ولليمنيين على أيديهم إلا وقد الناس تاعبين وناسين حتى كيف يقولوا لبعضهم السلام عليكم.
وما شيفترعوا ولا شيعقلوا إلا بحرب ثانية تطعفرهم كلهم خارج اللعبة.
*كاتب يمني ساخر
تعليقات